الدولة المدنية في لبنان بين الواقع والطموح

بقلم السفير يوسف صدقة*

تُطرَح مسألة الدولة المدنية في لبنان عادة عند حصول أزمة دستورية أو سياسية أو إجتماعية. وتعود القضية إلى الإنكفاء فترة، ومن ثم تعود إلى السطح من جديد، عندما يشتدّ النزاع السياسي.

يعتبر رئيس مجلس النواب الحالي، نبيه بري، أن الدولة المدنية تُعَدُّ مَدخلاً لحلّ الأزمة اللبنانية. وكانت مسألة الدولة المدنية  مطروحة في لبنان قبل العام 1975، وقد أتت التطورات بعد الحرب اللبنانية لتُكرّس الطائفية السياسية أكثر في الثقافة السياسية اللبنانية، ولا سيما بعد اتفاق الطائف لعام 1989.

إلا أن إتفاق الطائف طرح مُقاربة مُتقدّمة حيث نصّت المادة 2 – ر من فصل الإصلاحات السياسية: “تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، وشخصيات سياسية وفكرية وإجتماعية؛ مهمة الهيئة دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية”.

ويُمكن مقاربة الدولة في لبنان، كدولة مدنية، ذات خصوصية، لا تتماهى مع المفهوم الغربي للدولة المدنية. وهي مُقيّدة بالقيد الطائفي، حيث يمارس الشعب دوره، بصفة أبناء طوائف ومذاهب، وليس كمواطنين متساوين، حيث القيود الطائفية مُدوَّنة في لوائح الشطب الإنتخابية.

القيد الثاني وهو أن الطائفية السياسية تتضمن توزيع السلطات، قانونياً ودستورياً وتوزيعاً طائفياً.

القيد الثالث: هو أن هناك قوانين للأحوال الشخصية لكل طائفة ومذهب.

  • مفهوم الدولة المدنية في الربيع العربي:

عرّف مفكرو الربيع العربي، الدولة المدنية بأنها دولة تهدف إلى تحقيق عدد من المطالب الخاصة بالمواطنة، والمتعلقة بالمساواة في مجال الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وكذلك تحقيق التنمية، يمكن أن تستمد قوانينها الأساسية من الشريعة الإسلامية. فأدبيات الدولة المدنية لا تتضمن الإعتراف بحق عدم الإيمان والإلحاد.

أما الدولة المدنية بشكل عام، فهي الدولة التي تحكم نفسها بنفسها، وتستمد شرعيتها من المواطن بمعزل عن المواطنين، بمعزل عن أية إنتماءات أخرى دينية او عرقية، أو إيديولوجية أو طبقية، فالشعب وحده مصدر السلطات.

فالدولة المدنية لا تُعادي الدين، حيث أنها ترفض إستخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية.

ب-الدولة المدنية والعلمانية:

تُعَرَّف الدولة العلمانية بدولةٍ تفصل بين السلطات السياسية والمالية والعلمية والدينية، حيث يخضع جميع المواطنين للقانون المدني الذي يُحدد الأدوار وتنظيم العلاقات بين أفراد المجمتع.

أما التعريف الفرنسي للعلمانية، فتتلخص بأنها قانون أساسي يجمع الحريات الأساسية، ومنها حرية الضمير – التعبير – الحرية الدينية. وقد أخذت العلمانية مداها بعد الصراع مع الكنيسة الكاثوليكية لأجيال عدة. تستند الدولة العلمانية على مبادئ عدة منها:

  • تفصل الدولة العلمانية، بين مجالات مختلفة، في حياة الناس: العامة والخاصة – ففي المجال العام تضم المدرسة، القضاء، الخدمات، بحيث يخدم النظام جميع الناس، بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم الدينية أو ميولهم الإلحادية، حيث لا يشكل أي دين مرجعية للدولة. أما في المجال الخاص فإن النظام العلماني يحترم المعتقدات الدينية والشخصية.
  • تضمن الدولة العلمانية المساواة الكلية بين المُتدينين بكل مذاهبهم والمُلحدين في إطار فلسفة حرية الضمير. ويُمكن ملاحظة أن أحد أكثر الإنجازات حضوراً للدولة العلمانية هو إلغاؤها المُطلَق لشرعية أية فتوى دينية أو سياسية تمسّ حياة العلماء والمفكرين…

على صعيد الدولة المدنية فلا توجد مقاربة تتعلّق بالفصل القانوني بين الدين والسياسة والعلم.

على صعيد الدولة العربية فإنه لا توجد نيّة للقطيعة الجذرية مع التاريخ العربي الحافل بفتاوى دينية وسياسية.

أما في النظام العلماني فقد تحوّل الدين إلى سلطة روحية خاصة لا تتعاطى في السياسة أو بالحياة اليومية خارج الدين بمعناه الحصري.

جتاريخ العلمانية في الغرب:

على صعيد آخر فقد ظهرت العلمانية بشكل واضح في الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة لعام 1958 والذي نصّ في المادة الأولى: “الجمهورية الفرنسية جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديموقراطية واشتراكية. تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين، وتحترم جميع المعتقدات”.

وقد استُخدِمَ مُصطلح العلمانية لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين سنة في العام 1648، عند توقيع معاهدة واستفاليا، وهي ترجمة لكلمة “Secularim” والتي تعني علماني/علمانية.

وقد تطوّرت فكرة دولة الحق والقانون، في سياق التحولات التاريخية الكبرى، التي شهدتها أوروبا بعد صراع طويل إمتد لثلاثة قرون ما بين العقل التنويري العلمي وبين العقل الديني المسيحي، وتحت لوائه إندلعت الثورات في الغرب الأميركي في العام 1770 والثورة الفرنسية في العام 1789، والتي تأثرت بالفلاسفة توماس هوبز أحد مؤسسي فلسفة السياسة الحديثة، وب”أبي الفلسفة الحديثة” رينيه ديكارت، وبصاحب فلسفة “فرح المعرفة” باروخ سبينوزا، وبمؤلف كتاب “عصر التنوير” جان جاك روسو، وبمونتسيكيو صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده حالياً العديد من الدساتير عبر العالم. وتميزت هذه الثورات بالقطيعة المعرفية مع التصور الإلهي للكون، وقامت على أساس أن المواطن هو مركز الكون.

هـ – مستقبل الدولة المدنية في لبنان:

تُنادي بعض الأحزاب وعدد من هيئات المجتمع المدني بالدولة المدنية، وتقع الإشكالية في المزج بين متطلبات الدولة المدنية والدولة العلمانية. فإقصاء الدين في أية عملية إصلاحية سوف يصطدم بشرائح واسعة من المجتمع اللبناني تلتزم قيمها الدينية، خصوصاً في ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية، فتطور المجتمع اللبناني قام على ميثاق العيش المشترك، ومفهوم المشاركة، وتأسيس الديموقراطية التوافقية. فالدولة اللبنانية هي مُحايدة في الأمور الدينية تُعامل مواطنيها بغض النظر عن الإنتماء الديني، وهي تضمن حرية الإعتقاد، كما تكفل الحقوق الشخصية والمدنية السياسية.

إن طرح إلغاء الطائفية السياسية في لبنان تحت شعار الدولة المدنية، وذلك في غياب ثقافة المواطنة، يؤدي إلى هيمنة طرف على الدولة اللبنانية، تحت ذريعة الطروحات الإصلاحية. فبدل أن تُمثّل الدولة المدنية الحل للنظام اللبناني تصبح مشكلة أخرى للكيان. وفي تقديرنا أن طبيعة المجتمع اللبناني اليوم والتحوّلات في الإقليم قد لا تساعد في إنشاء الدولة المدنية.

فتنامي الشعور المذهبي والطائفي، ووجود أحزاب دينية تتعايش مرحلياً مع النظام اللبناني، تقابلها فئة متنوّرة في المجتمع المدني لم تصل إلى بلورة كوادر منظمة قادرة أن تُعمّم ثقافة المواطنة في المجتمع اللبناني، بالإضافة إلى أن الأقليات في لبنان تخشى الذوبان تحت شعار الإصلاح في الدولة المدنية. وهناك عامل أساسي في علاقة المواطن والدولة، فالحكومات المُتعاقبة بعد الطائف، خلقت الشرخ بين المواطن والدولة في عدم تحقيق الإصلاحات الاقتصادية البنيوية للنظام اللبناني، فنشأت المحسوبية والشللية واستغلال ثروات الدولة، لحساب أقلية على حساب المواطنين. وهذا ما كرّس الطائفية والمذهبية، لأن المواطن الذي فقد التوزيع العادل لخدمات الدولة، إضطر إلى الإحتماء بالزعيم الطائفي لتأمين الوظيفة والخدمات. إن هذه العوامل المذكورة تحدّ من قبول شريحة كبيرة من اللبنانيين الدولة المدنية، المرتبطة بإلغاء الطائفية السياسية. والسؤال المطروح كيف يُمكن إنشاء دولة مدنية في ظل التطرف المذهبي في المنطقة العربية، وفي ظل الثورات العربية والصراع العربي – الإيراني،  والصراع العربي – التركي. من هنا أن شروط الدولة المدنية غير متوافرة في الوقت الراهن لإنشاء الدولة المدنية على الصعيد اللبناني البحت. فإن من شروط الدولة المدنية أيضاً، تحقيق الإنماء المتوازن وإنجاز اللامركزية المُوَسَّعة من أجل تخفيف الضغط عن المدن الرئيسية، وربط خدمات الناس بالتكنولوجيا للحدّ من الرشوة، وبدء العمل بالزواج المدني الإختياري. في المحصلة النهائية فالتغيير المأمول في الطبقة الحاكمة والإنضمام إلى مفهوم الحوكمة، وتبنّي مبدأ العمل للصالح العام وليس لصالح مجموعة، واحترام حقوق المواطن الأساسية بحيث يشعر المواطن، أياً كان إنتماؤه، بأن حقوقه مُصانة في الدولة من دون إعتبارٍ للدين والمذهب، وهذا يساعد على تحقيق حلم الدولة المدنية.

أما على الصعيد الحكومي في لبنان، وبعد تكليف دكتور مصطفى أديب تشكيل الحكومة، ألا يشكل إصرار بعض الأطراف، على حيازة وزارة المالية، نكسة للحالمين بإنشاء دولة مدنية؟ لقد وقع لبنان في انهيار إقتصادي ومالي وإجتماعي غير مسبوق. ألا يستحق هذا الوطن في مئويته الأولى من جميع الطوائف والمذاهب التضحية والترفّع عن المصالح الضيّقة قبل سقوط الهيكل على الجميع وخراب البصرة.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى