الحربُ الباردة التكنولوجية المُقبِلة بين أميركا والصين

فيما نجحت الولايات المتحدة أخيراً من وضعِ أُسسٍ لاستراتيجيةٍ تكنولوجية ضد الصين، فإن بكين بدورها وضعت سياسةً لمقاومة واشنطن وسياساتها.

 

شي جي بينغ ودونالد ترامب: صديقان لدودان

 

بقلم آدم سيغال*

بعد ثلاث سنوات ونصف من ولايتها الأولى، حدّدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أخيراً استراتيجيةً شاملة للمُنافسة التكنولوجية مع الصين. من قَطعِ السلاسل التي تُزوّد عمالقة التكنولوجيا الصينيين إلى منع المعاملات معهم إلى تنظيم وقوننة الكابلات البحرية التي تعتمد عليها الإتصالات السلكية واللاسلكية، غالباً ما كانت إجراءات إدارة ترامب غير مُكتمِلة، وارتجالية، وحتى ضارة ببعض نقاط القوة العظيمة لنظام الإبتكار الأميركي. ومع ذلك، فقد حدّدت ووضَعت الخطوط العريضة لسياسة التكنولوجيا الأميركية تجاه الصين في المستقبل القريب. وتعتمد هذه السياسة على تقييد تدفّق التكنولوجيا إلى الصين، وإعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية، والإستثمار في التقنيات الناشئة في الداخل. حتى الإدارة الأميركية الجديدة من غير المرجح أن تبتعد من هذه الأساسيات.

لقد تبلورت استراتيجية بكين المُضادة أيضاً. تتسابق الصين لتطوير أشباه الموصلات وغيرها من التقنيات الأساسية لتقليل تعرّضها لسلاسل التوريد التي تمرّ عبر الولايات المتحدة. وسعياً إلى تحقيق هذا الهدف، يعمل قادتها على تعبئة شركات التكنولوجيا، وتقوية الروابط مع الدول المُشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومواصلة حملة التجسّس الصناعي الإلكتروني.

لقد أصبحت ملامح “الحرب الباردة التكنولوجية” واضحة، لكن يبقى السؤال مفتوحاً حول مَن سيستفيد، إن كان هناك من مُستفيد، من هذه المنافسة. من المُرجّح أن يبتكر عالم التكنولوجيا المُتشعّب بشكل أبطأ، على الأقل في المدى القصير. سيكون أيضاً مُكلفاً. ويُقدِّر تقريرٌ صادرٌ عن “دويتشه بنك” تكاليف حرب التكنولوجيا بأكثر من 3.5 تريليونات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة. ومع ذلك، يأمل القادة على جانبَي المحيط الهادئ في تسريع التطور التكنولوجي في الداخل من خلال جعله مسألة تتعلق بالأمن القومي.

إستراتيجية صينية مُضادة

حدّد ترامب مسار المُنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين. إذا كان هناك تغييرٌ في الإدارة، فمن المحتمل أن تكون التغييرات في السياسة مسألة ضبط مثالي. لمعالجة المخاوف التي تُثيرها “تِيك توك” (TikTok) و”وي تشات” (WeChat) والتطبيقات الصينية الأخرى بشأن خصوصية البيانات والرقابة، على سبيل المثال، قد تختار الولايات المتحدة في نهاية المطاف استبدال الحظر الشامل بناءً على بلد المنشأ مع إطارٍ تنظيمي أقوى للخصوصية خاص بها. ويُمكن للإدارة الجديدة أن تدخل تغييرات واسعة أخرى من شأنها أن تؤثر في مسار المنافسة.

إذا أرادت الولايات المتحدة تقوية وتعزيز العلاقات مع حلفائها، على سبيل المثال، فقد تجد شركاءً أكثر استعداداً للتعاون في تطوير المعايير الدولية، وحماية الملكية الفكرية الحساسة، والإستثمار في “الجيل الخامس” (5G) وغيره من التقنيات الناشئة. إقترحت إدارة ترامب زيادةً بنسبة 30 في المئة في الإنفاق غير الدفاعي على الذكاء الإصطناعي وعلوم المعلومات الكمية، لكن مجالات أخرى للبحث العلمي يمكن أن تحصل أيضاً على تمويل ذي أولوية. يُمكن لسياسات أكثر ذكاءً للهجرة أن تمنع العديد من الأفضل والأذكى من البحث عن فُرص في أوستراليا وكندا والإتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على حساب الولايات المتحدة، وبالتالي تعزيز القدرة التنافسية لأميركا في مجال أشباه الموصلات والذكاء الإصطناعي.

لكن كل هذه التغييرات ستحدث حول هوامش الإستراتيجية الأساسية نفسها: منع تدفق التكنولوجيا إلى الصين، وإعادة ربط بعض سلاسل التوريد عالية التقنية، وتنشيط الإبتكار في الولايات المتحدة. هذه المبادئ الأساسية واضحة لبكين كما أصبحت في واشنطن. نتيجة لذلك، تستعد الصين لمستقبل لا يمكنها فيه الاعتماد على أميركا في التقنيات الأساسية.

في هذا العام، كشف المؤتمر الشعبي الوطني الصيني عن خطة مدتها خمس سنوات تستثمر فيها البلديات والمقاطعات والشركات ما يقرب من 1.4 تريليون دولار في بناء “بنية تحتية جديدة” من خلال الذكاء الإصطناعي ومراكز البيانات والجيل الخامس والإنترنت الصناعي وغيرها من التقنيات الجديدة. يسعى صنّاع السياسة الصينيون بشكل خاص إلى تقليل اعتماد بلادهم على الولايات المتحدة في صناعة أشباه الموصلات. في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، أنشأت بكين صندوقاً لأشباه الموصلات بقيمة 29 مليار دولار، وفي آب (أغسطس)، قدّم المسؤولون الصينيون سياسات أخرى لدعم صناعات الرقائق، بما في ذلك المزايا الضريبية ودعم البحث والتطوير وحوافز لشركات أشباه الموصلات الدولية للإنتقال إلى الصين. وبحسب ما ورد في تقارير عدة، إستأجرت شركتان من مُصنّعي الرقائق المدعومتان من الحكومة أكثر من 100 مهندس ومدير مخضرم من شركة “تايوان سوميكوندكتور مانيفوكتورينغ” (Taiwan Semiconductor Manufacturing Company)، الشركة الرائدة في صناعة الرقائق في العالم، وكشفت شركةٌ للأمن السيبراني أخيراً عن مشروع قرصنة إستمرّ على مدى عامين لسرقة شيفرة أو رمز المصدر، ومجموعات تطوير البرمجيات والشرائح، وتصاميم من سبع شركات رقائق تايوانية.

يبدو أن الجهود المبذولة لتقليل الإعتماد على التكنولوجيا تساعد على دفع جدول الأعمال الاقتصادي الأكبر للصين. روّجت وسائل الإعلام الحكومية الصينية أخيراً لسلسلة جديدة من الفكر الإقتصادي للرئيس الصيني شي جين بينغ، تسمى “نظرية التداول المزدوج”. على الرغم من أن تفاصيلها لا تزال غامضة، يبدو أن النظرية تُعطي الأولوية للإستهلاك المحلّي والأسواق والشركات في محاولة لتعزيز الإكتفاء الذاتي التكنولوجي للصين بعد عقود من النمو الذي قادته الصادرات. وفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال”، كان نائب رئيس الوزراء الصيني، “ليو هي”، يعمل، على مدى الأشهر الفائتة، على تحديد الشركات والصناعات المُعرَّضة لخطر العقوبات الأميركية، حيث اقترح أن تلك التي يُعتقَد أنها مُعرَّضة للخطر بشكل خاص يُمكن أن تحصل على مزيد من التمويل الحكومي للبحث والتطوير.

تُحاول الحكومة الصينية حشد شركات التكنولوجيا الخاصة أيضاً لدعم الأهداف الوطنية. في اجتماعٍ في تموز (يوليو) مع منظمي الأعمال الصينيين، دعا الرئيس الصيني الشركات إلى أن تكون وطنية ومُبتَكِرة. ويعمل أكثر من نصف قادة الأعمال البالغ عددهم 25 الذين شاركوا في الإجتماع في مجالات التكنولوجيا الناشئة، مثل صناعة الرقائق والذكاء الإصطناعي والتصنيع الذكي. وكانت شركة “علي بابا” (Alibaba) أنشأت قسماً لأشباه الموصلات، يُدعى “بينغتوج” (Pingtouge)، في أيلول (سبتمبر) 2018، وأصدرت “بايدو” (Baidu) شريحة ذكية تُسمّى “كونلون” (Kunlun)، في تموز (يوليو) 2019. كما أعلنت “علي بابا” (Alibaba) و”تنسنت” (Tencent) عن استثمارات جديدة ضخمة في الخدمات السحابية ومراكز البيانات لدعم البنية التحتية الجديدة.

في الوقت الذي تتطلع الصين إلى تنويع سلسلة التوريد الخاصة بها، فقد اهتمت بالحلول مفتوحة المصدر التي تعتقد أنها لن تخضع لعقوبات الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تعهّدت شركة “هواوي” (Huawei) باستثمار مليار دولار لجذب المُطوّرين لاستبدال مفتوح المصدر لخدمات “غوغل” (Google Mobile Services)، وشاركت الصين بنشاط وحماس في مشروع “ريسك-في” (RISC-V) للرقاقات مفتوحة المصدر. علاوة على ذلك، فكلما وجدت شركات التكنولوجيا الصينية أسواقاً أوروبية أقل ترحيباً، زاد تركيز هذه الشركات على بناء البنية التحتية الرقمية وتقديم الخدمات للبلدان التي وقّعت على مبادرة الحزام والطريق.

أخيراً، إذا حدث الأسوأ غير المتوقَّع، ، فإن بكين تحتفظ بأداة سياسية قوية في جعبتها: يُمكنها دائماً الإنتقام من شركات التكنولوجيا الأميركية. لقد أفادت التقارير أن وزارة التجارة الصينية أعدّت “قائمة كيانات غير موثوقة” بالأشخاص والشركات الأجنبية: تلك الكيانات التي قطعت الإمدادات عن الشركات الصينية لأسباب غير اقتصادية قد تشهد تقلص أعمالها في الصين بشكل كبير من خلال الحظر أو القيود المفروضة على التجارة والإستثمار والتصاريح التنظيمية، والتراخيص. واقترح البعض في وسائل الإعلام الصينية ومجتمع الأعمال أنه يمكن في النهاية مُعاقبة “آبل” أو “كوالكوم” بسبب حملة واشنطن ضد “هواوي”. لكن حتى الآن، تجنّبت بكين مثل هذه الإجراءات واختارت بدلاً من ذلك وضع نفسها على أنها الجهة الفاعلة المُقَيَّدة والمسؤولة في النزاع التجاري مع الولايات المتحدة.

في المدى الطويل

تستعد الصين والولايات المتحدة لمنافسة تكنولوجية طويلة الأمد – مُنافسة من المحتمل ألّا تُغيّر المسار بغض النظر عن نتيجة الإنتخابات الرئاسية الأميركية. من أجل أن تُحفّز تلك المنافسة الإبتكار بمعدّلٍ يُعوّض الخسائر التي تترتب عليها، سيتعيّن على كلٍّ من بكين وواشنطن التغلب على الحواجز السياسية المحلية.

لقد سمحت السياسة الصناعية الصينية للبلاد بتحقيق مكاسب في مجالات مثل أجهزة الكمبيوتر العملاقة، ولكن اتجاه بكين من أعلى إلى أسفل يُمكن أن ينتج عنه أيضاً عدم الكفاءة والهدر والتكرار. والجدير بالذكر أن الحكومة فشلت حتى الآن في سد الفجوة بين الصين والولايات المتحدة في مجال أشباه الموصلات، على الرغم من عقودٍ من الدعم لهذه الصناعة، ومن غير المرجح أن تسفر الجهود الحالية عن اختراقات فورية.

في الولايات المتحدة، تدعم الوكالات التنفيذية والكونغرس على نطاق واسع تعزيز الإبتكار. على مدى الأشهر الستة الماضية، قدّم أعضاء الكونغرس مشاريع قوانين تعكس هذا الإلتزام – تعزيز تصنيع أشباه الموصلات المحلية، على سبيل المثال، إعادة تشكيل مؤسسة العلوم الوطنية، وإنشاء سحابة بحثية وطنية. يسعى مشروع قانون أيضاً إلى تسهيل الحصول على تأشيرات الهجرة لأولئك الذين يعملون في الذكاء الإصطناعي والتقنيات الأخرى الضرورية للأمن القومي.

ومع ذلك، يجب تحويل هذا الإهتمام السياسي رفيع المستوى إلى دعم مستمر من الحزبين (الجمهوري والديموقراطي). تُمثل السنوات الثلاث الماضية تحذيراً مُسبَقاً من المنافسة التكنولوجية الشديدة المقبلة. أوضحت بكين أنها ستتكيف مع الجهود الأميركية وتستجيب لها. يجب على واشنطن أن تفعل الشيء نفسه.

  • آدم سيغال هو رئيس “إيرا أ. ليبمان” في مجال التقنيات الناشئة والأمن القومي، ومدير برنامج السياسة الرقمية والفضاء الإلكتروني في مجلس العلاقات الخارجية في أميركا. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @adschina. الآراء الواردة في هذا المقال تُمثل الكاتب.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى