ثورةٌ شيعية لا كباقي الثورات!

بقلم بادية فحص*

غيّرت التظاهرات التي شهدتها مدينة النبطية اللبنانية بدءاً من 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وجه التاريخ أو مسيرة حياة مجموعة بشرية. وكان تأثيرها قوياً جدّاً بحيث لا يكفي أن نُسمّي ما حدث في هذه المدينة الجنوبية حراكاً، لأن ما شهدته كان ثورة، بكل ما تتضمنّه المفردة من دلالات سياسية وثقافية واجتماعية.

يُمكن أن نحصي مجموعة من التغييرات التي أحدثتها تظاهرات النبطية ونجحت في كسر الصورة النمطية التي أطّرت المنطقة على مدى عقود.

التغيير الأول والأهم الذي حقّقته ثورة النبطية هو أنها دحضت ادعاءات أبرز حزبين شيعيين، أي “حزب الله” وحركة “أمل”، بأن الطائفة الشيعية في لبنان عبارة عن كتلة واحدة مُنساقة بأكملها خلفهما. لا بل أعلنت الإحتجاجات عن ولادة كتلة ثالثة، حيوية ومتماسكة، تملك صوتاً عالياً، وعُمقاً اجتماعياً، ومقبولية شعبية، ونزعة وطنية، وطروحات سياسية مُغايرة للسائد في لبنان.

ثانياً، دفعت التظاهرات العديد من اللبنانيين إلى اكتشاف الآخر المُختلِف، والإعتراف به، سواء كان مواطناً، أم حيّزاً جغرافياً. فالمجتمع الشيعي ظل حتى 17 تشرين الأول (أكتوبر) مُجتَمَعاً يخاف الإختلاط، ويتوجّس من الإختلاف، ويعتبر كلّ مَن لا يشبهه غريباً. وهذا شركٌ مدروس، أوقعته فيه نخب “أمل” و”حزب الله”، لتسهل السيطرة عليه. فنتيجةً للعلاقة ما بين المذهبية باعتبارها تُمثّل التزاماً ل”حزب الله” أو “أمل”، وبين تراجع مفهوم المواطنة في الوعي العام، نشأت ظاهرة تقبُّل هذا المجتمع فكرة الإنتماء السياسي والديني ذي الاتجاه الواحد، الذي تهيمن فيه قوة السلاح في مجال الشراكة، ويُسيطر فيه التعصّب في مجال حقّ الإختلاف.

يَكمُنُ تغييرٌ آخر في تجرّؤ البيئة الشيعية، التي لطالما شكّلت خزّاناً بشرياً للمقاومة، وأمّنت نفوذاً جيوسياسياً ل”حزب الله”، للمرة الأولى، على تحدّي إرادة الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، وعدم الإمتثال لأوامره أو دعواته إلى ترك الشارع. وهذه سابقة لم يحدث أن شهدتها منطقة أو بيئة شيعية، منذ تولي نصر الله زمام قيادة “حزب الله” في العام 1992.

يُضافُ إلى ذلك أن “ثوار” النبطية أصرّوا على رفع شعار “كُلُّن يعني كُلُّن”، الذي تبنّاه اللبنانيون في كل المناطق، للقول إن القيادة السياسية بأكملها في البلاد فاسدة. للمرة الأولى، لم يتم تنزيه مسؤولي “حزب الله” و”أمل” مهما علا شأنهم، من النقد الموجّه إلى الطبقة السياسية. فحطّم هذا الشعار أسطورة التعفف، التي يروّج لها “حزب الله”، وقضية رفع الحرمان، التي تتبناها حركة “أمل”. وقد استفزّ هذا الشعار أيضاً جمهور الثنائي الشيعي، في كل المناطق، وليس في النبطية وحدها، وبالأخص جمهور “حزب الله”، الذي يصر على تمايز مسؤوليه عن كلٍّ من مسؤولي “أمل” ومسؤولي الأحزاب الحاكمة كلها، بل يعدّ مهام سياسييه في الحكومة والبرلمان امتداداً لبطولات المجاهدين في الجبهات وحفظاً لدماء الشهداء. وقد دفع ثوار النبطية أثماناً اجتماعية وأمنية واقتصادية باهظة، نتيجة انتقاد الطبقة السياسية.

من التغييرات الكُبرى أيضاً أن ثورة النبطية فضحت ملفّات الفساد والنهب في الجنوب، إذ سمّى المتظاهرون الفاسدين بأسمائهم، وشمل ذلك مسؤولاً بارزاً وزوجته. وحرصوا كذلك على عدم استثناء وزراء “حزب الله” ونوابه وكوادره المسيطرين على الكثير من الوظائف الرسمية في المنطقة وعلى المجالس البلدية والإختيارية. فسقطت مقولة السكوت عن الفساد بحجة حماية المقاومة، ما عكس موقفاً يعتبر أن “حزب الله” وحلفاءه منظومة واحدة تحكم البلد، وتتغاضى عن السرقات، وتُمرّر الصفقات الفاسدة، وتسطو على حقوق الناس.

حقّق “ثوار” النبطية إنجازاً آخر تمثّل في تخصيص مكان للتجمّع بشكل رسمي وثابت في مدينة النبطية، على الرغم من عمليات الكر والفر بينهم وبين مؤيدي “أمل” و”حزب الله”. فقد كرّسوا الباحة في جوار مقر البلدية كساحة دائمة للثورة، وبنوا فيها خيمة تعرّضت إلى الحرق والتحطيم مرات عدة. وهذا يُعدّ إنجازاً تاريخياً في منطقة لا تعترف بأي فصيل سياسي يدور خارج فلك الحزبين الأساسيين، ولا تسمح بالتالي لأي تكتل معارض أو حزب سياسي غير متحالف مع “حزب الله” و”أمل” بأن يكون له مقر فيها.

نذكر هنا نقطة تحوّل مهمة أخرى هي المشاركة النسائية في الحركة الإحتجاجية، التي كسرت الصورة النمطية التي حدّدت هوية المنطقة منذ فترة طويلة. فمنذ عقود، تحتكر “المرأة المُحجّبة” كل المساحات السياسية والثقافية والإجتماعية في الجنوب، وعلى وجه الخصوص “المُحجَّبة إيديولوجياً”، أي المرأة التابعة التي تمشي خلف الرجل، أو أم الشهيد أو المجاهد، أو زوجته أو شقيقته أو ابنته.

لكن خلال تظاهرات 17 تشرين الأول (أكتوبر) والأسابيع التي تلتها، فاق الحضور النسائي في النبطية الحضور الذكوري. فكانت النساء قائدات الثورة الفعليات، والداعيات المُتحمّسات إلى التغيير، حيث كنّ في الصفوف الأمامية في التظاهرات سافرات، يُغنين وينشدن ويرقصن على أنغام موسيقى الأغاني الوطنية، ويهتفن بصوت عالٍ، على الرغم من أن صوت المرأة يًعتبَر عورة في الموروث الديني. لكن بفضل عزيمتهنّ وعنادهنّ، إضافةً إلى كونهنّ نساء وأمهات، استطعن أن يُخففن من حدّة التوترات، حين كان الثوار يتعرّضون إلى الهجوم من قبل جمهور “حزب الله” وحركة “أمل”.

شهدت التظاهرات أيضاً عودة لبنان الوطن إلى النبطية، مع عَلَمه ونشيده. فخلال العقود التي سيطر فيها الحزبان على الجنوب، اختفى العلم اللبناني من المنطقة إلى حدّ كبير، واحتل مكانه علم “حزب الله” الأصفر وعلم حركة “أمل” الأخضر، بيد أن ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) أعادت علم لبنان إلى النبطية، حتى صار مناصرو “أمل” و”حزب الله” يسمونه “علم الثورة”. أما النشيد، فبعدما كان لا يُسمَع إلّا من خلف أسوار بعض المدارس في المناسبات الرسمية الوطنية، واستبدلوه بنشيد “ألا إن حزب الله هم الغالبون”، ونشيد “للمجد هيا يا أمل”، صار يصدح على مدى ساعات النهار في الشوارع والساحات والمسيرات الإحتجاجية.

أخيراً، باتت الموسيقى والأغاني تُسمَع في شوارع النبطية، مدينة الشيعة المُتديّنين، مدينة الحداد وضرب القامات (خلال إحياء ذكرى عاشوراء)، مدينة الأناشيد الدينية والأغاني الحزبية. وأصبح من الممكن رؤية شابات وشبان يمسكون أيدي بعضهم البعض، ويعقدون حلقة دبكة في الشوارع، وتسير امرأة إلى جانب رجل في مسيرة تجوب أحياء المدينة، مُتجاهلين قواعد الفصل بين الجنسين. كل ذلك أحدثته ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر)، التي حوّلت النبطية مُجدّداً، إلى مكانٍ مدني، بعدما كانت عسكرة الحزب والتصعيد الطقوسي قد سيطرا عليها مدة طويلة.

كانت ثورة النبطية باختصار، محطة تغيير جذري بالنسبة إلى شيعة لبنان، وحالة مُعارَضة ضخمة وعلنية، في وجه السلطتين الدينية والسياسية، وتُشبه إلى حد بعيد، حركة “عامية انطلياس” التي تأسست خلال القرن التاسع عشر وأشعلت شرارة أول معارضة شعبية داخل الطائفة المارونية ضدّ المؤسسة الدينية. وعلى الرغم من انحسار زخم ثورة تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، إلّا أنها أسّست نواة حركة مُعارَضة للمستقبل الآتي، إذ أنها حطّمت كل الحواجز، وكسرت هيبة أبرز حزبين في الطائفة الشيعية، وألغت القدوات، وخدشت الهالة المُقدَّسة، وخرقت الحصار، وقضت على أسطورة التوافق التام والتمثيل المُطلَق لثنائي “حزب الله” وحركة “أمل”. فلأول مرة تمكّن الشيعة المحاصرون، الذين أُريدَ لهم أن يكونوا جزءاً من خريطة إيديولوجية ضخمة، تمتد من اليمن حتى البوسنة، من أن يختاروا أن يكونوا جزءاً من أحداث تحصل على صعيد وطنهم.

بدا واضحاً من تظاهرات النبطية أن الناس يتوقون إلى التغيير، ويرغبون في الإنفتاح، وأن الهوية “الموحّدة” كما يُزعم هي مجرد وهم، فهي جزء من مؤامرة أجاد أمراء الطوائف والمناطق حبكها في الجنوب، للحفاظ على امتيازاتهم من دون الإكتراث لحاجات الناس.

  • بادية فحص هي كاتبة وصحافية لبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى