بَينَ جِنِرالَين

بقلم راشد فايد*

لا يستطيع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ان يتّكئ على خطاب الجنرال هنري غورو يوم الأول من أيلول (سبتمبر) 1920، وما فيه من آمالٍ وتوصيفاتٍ إيجابية لحالِ لبنان تلك الأيام. فلا ملامح لقدرةٍ كامنة، لدى لبنان اليوم، على “تطبيق تنميته الخاصة”، ولا مدنه نالت قبساً من آمال تلك الأيام.

برغم ذلك، استيقظ خليفته الجنرال الرئيس الأحد، على أهمية إحلال “دولةٍ مدنية” في لبنان، على نقيض مواقفه وأدبيات تياره السياسي، وكأن ذاكرة اللبنانيين تُفرَّغ بطي ورقة ورميها خلف ظهر الأيام، أو بتجاهلِ قانون انتخاباتٍ فُرِضَ بترهيبٍ شقّ البلاد، كما كان الحال مع انتخابه رئيساً للجمهورية على رؤوس حراب حليفه “حزب الله”، بوصفه “المسيحي القوي”، لا اللبناني القوي.

المسافة الزمنية بين الجنرالين حافلة بالخيبات، والمئة سنة بين إعلان دولة لبنان الكبير واليوم، لم تكفِ لقيامِ حياةٍ سياسيةٍ سليمة، فلا هذه بلا إعلاء المُواطَنة على الهويات الطائفية، ولا تنتظم من دون حياةٍ حزبية تعلو على الطوائف، ولا تعيش إلّا في إطارِ دولةٍ تحتكر السلاح، والقرار الوطني. فكيف نُحقّق للرئيس الجنرال رؤياه الآتية بعد 4 سنوات من السلطة، وكأنه يقر بعبثية ما مضى ولا جدواه، ويُقدّم لنا طبقاً لا يُؤكَل، بعدما عبر “فرن” الثنائي الشيعي، ولفيفه.

ذلك جزءٌ من ملء الفراغ السياسي الذي كرّسته الكارثة في مرفأ بيروت، فشدّت باريس “الأم الحنون” رحال رئيسها الى لبنان، مُستفيداً من انشغال واشنطن بالإنتخابات الرئاسية، بعد نحو شهر، وبالتفاهم معها، ليعمل على تهدئة الأمور، التي يعرف ان رسنها بين يدي طهران وواشنطن، وأن مصلحة الطرفين ألّا ينفجر الأمر بينهما قبيل الإنتخابات، وأن يتواطأا على تمرير المرحلة بالتي هي أحسن: طهران تنتظر جو بايدن ودونالد ترامب ينتظر نفسه.

ما تريده باريس هو الحفاظ على الكيان، ولو على حساب طرفٍ لمصلحة آخر، وزاد من إلحاحها تخوفها من “زوال لبنان”. وزوال أي دولة يمر بحروبٍ داخلية، أو باحتلالٍ خارجي، فأيّهما يُحدِقُ بلبنان اليوم؟

الوضع الداخلي لا يوحي بـ”استلطاف” حربٍ أهلية، والطرف المُسلّح الأكبر لا يواجه ندّاً فعلياً، فيما تمنحه إسرائيل سلماً مُضمراً، يترتّب على سقوطه ظروف مغايرة. فهي تستمتع حالياً بمصالحات مع دول عربية، يستعجلها دونالد ترامب خدمةً للوبي الصهيوني. وطهران أيضاً لا تُريد حرباً في لبنان، فهي تحتاج إلى حسن سلوك يُشجّع فرنسا على المضي قُدُماً في مراعاتها ومعاندة واشنطن، كما في تطويقها قرار تمديد حظر السلاح على إيران. ولكن، ماذا لو كانت التسريبات عن تغلغل “داعش” أبعد من مزاعم؟

في ظل ذلك، يبدأ الإنتداب الفرنسي الجديد، ويلعب ماكرون دور المُفوَّض السامي بشروط، فيأخذ من الضعيف ليُعطي القوي، في حدود ما لا يُهدّد توازناً وطنياً هشّاً وحتى كاذباً. إنها هدنة داخلية جديدة، والتشكيل امتحانها الأول.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fayed@annahar.com.lb
  • صدرَ هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى