ساعدوا لبنان على مساعدة نفسه

فيما أجمعت غالبية الأفرقاء السياسيين اللبنانيين على تسمية السفير مصطفى أديب لتشكيل حكومة جديدة، فإن المجتمع الدولي ما زال يدرس كيفية مساعدة لبنان وإعادة بناء بيروت في ظل سلطة ينخرعظامها الفساد من أعلى إلى أسفل، فهل ينجح الرئيس الجديد في تشكيل حكومة جديدة تُعيد الثقة إلى البلاد وتُحفّز المانحين على المساعدة؟

السفير مصطفى أديب: هل يستطيع تأليف حكومة تُعيد الثقة بلبنان دولياً؟

 

بقلم دانيال سيروير ورندا سليم*

لا تزال بيروت تتعافى من انفجار مينائها الذي أَودى بحياة ما يقرب من 200 شخص وجرح آلافٍ آخرين في 4 آب (أغسطس). لقد أدّى الإنفجار إلى تدمير مساحات شاسعة من العاصمة اللبنانية، تاركاً 300 ألف ساكن بلا مأوى. ستحتاج العناصر الرئيسة للبنية التحتية لبيروت، مثل المرفأ، إلى إصلاحات لا تستطيع الدولة تحمّل تكاليفها.

كان لبنان في أزمة حتى قبل الإنفجار. معدلات الإصابة بـ”كوفيد-19″ كانت في ارتفاع – ومنذ الإنفجار، تضاعفت. لقد دمّرت عمليات الإغلاق الإقتصاد اللبناني، بما في ذلك القطاع المصرفي الذي كان نابضاً بالحياة سابقاً، وأصبح الآن مُعسَّراً. علاوة على ذلك، يوجد في لبنان أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة إلى الفرد في العالم، وتحديداً من السوريين والفلسطينيين. التدفّق، الذي يُشكل حوالي 20٪ من سكان لبنان، كان من الصعب على دولة صغيرة استيعابه حتى في أفضل الأوقات. إن هذا البلد المعروف ب”لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط” مدفون الآن في وحلِ الفقر والمرض وخيبة الأمل واليأس.

لإعادة البناء في ظل هذه الظروف، سيحتاج لبنان إلى دعمٍ خارجي. لكن النظامَ السياسي في البلاد يُقسّم السلطة حسب الطائفة الدينية ويُشجّع القادة على إنشاء أنظمة المحسوبية التي تُحوّل الموارد العامة إلى حسابات بنكية خاصة. لدى المانحين الدوليين سببٌ وجيه للخوف من مواجهة الفساد الرسمي أو رؤية مساهماتهم تُستخدَم لخدمة المصالح الطائفية بدلاً من مصالح البلد ككل. الأشكال التقليدية للمساعدة المُوَجَّهة من خلال الحكومة المركزية مُعرَّضة بشكل خاص لسوء الإستخدام. في الماضي، أصبح المسؤولون الحكوميون أثرياء على وجه التحديد من خلال الإستفادة من الأموال الدولية المُخصّصة للاجئين السوريين وإعادة الإعمار بعد الحرب.

مع ذلك، هذه النتائج ليست حتمية ويُمكن معالجتها. تُوفّر الأزمة الحالية للدول المانحة فرصة للتعامل مع لبنان بشكل خلّاق وجعل الإنتعاش العادل والإزدهار لجميع اللبنانيين أولوية مركزية في المساعدة الدولية. بدلاً من توجيه المساعدات عبر الطرق المُعتادة غير الفعّالة، يجب على أولئك الذين يسعون إلى مساعدة لبنان تصميم نظامٍ يُوزّع المساعدة بشكل فعّال ويفرض شروطاً صارمة على استخدامها، بما فيها التدابير المُصمَّمة لتقليل الفساد وتعظيم النزاهة. يُمكن لمثل هذا النظام أن يُحاسب المسؤولين عن الكارثة حتى في الوقت الذي يُعمَل فيه على منع البلاد من الإنزلاق إلى أزمة أعمق.

أزمة دوّامة

لا يحتاج لبنان إلى إغاثة فورية فحسب، بل إلى إعادة إعمار طويلة الأمد. لقد تسبّب انفجار 4 آب (أغسطس)، وهو أحد أكبر الإنفجارات غير النووية المُسَجَّلة في التاريخ، بأضرارٍ في دائرة نصف قطرها ستة أميال من المرفأ. لا توجد أرقامٌ مؤكّدة حتى الآن، إلّا أن التقديرات الأوّلية تشير إلى أن تكلفة إعادة الإعمار تصل إلى 15 مليار دولار.

مع ذلك، فإن النقد وحده لن يُلبّي احتياجات لبنان. بدلاً من ذلك، للإستجابة بفعالية لأزمة لبنان، يتعيّن على الجهات الفاعلة الخارجية الإعتراف بالإختلال الوظيفي للنظام السياسي للبلد والمساعدة على إصلاحه. يلقي العديد من اللبنانيين باللوم على إهمال الحكومة في انفجار المرفأ: فقد سمح المسؤولون بتخزين مخزون هائل من نيترات الأمونيوم في أحد العنابر من دون اتخاذ تدابير أمنية منذ العام 2013. وأعاد الإنفجار تنشيط حركة الإحتجاج الشعبية، التي كانت خاملة في أثناء جائحة “كوفيد-19″، وهي تُطالب الآن بأن يُحاسَب السياسيون في البلاد وأن تكون عملية إعادة الإعمار خالية من الفساد.

وتحقيقاً لهذه الغاية، طالب الناشطون اللبنانيون وقادة المجتمع المدني المجتمع الدولي بتجنّب توجيه المساعدة من خلال حكومتهم، التي يخشون أن تُحوّلها إلى أهداف فاسدة. وتستند مخاوفهم إلى الخبرة المُكتسبة من الماضي: في أعقاب الحرب الأهلية المُدمّرة في لبنان، سرق السياسيون مليارات الدولارات من خلال مخططات إعادة البناء الفاسدة. لقد حصدوا أكثر المليارات من خلال احتكار العقارات في وسط بيروت النابض بالحياة. وتم تنفيذ المخطط عينه بمساعدة دولية بعد حرب العام 2006 مع إسرائيل، عندما حوّل المسؤولون مساعدات إعادة الإعمار الدولية غير المشروطة من دول الخليج إلى جمهورهم من خلال عقود مُربِحة.

الجهود الدولية المُبكِرة للإستجابة لأزمة آب (أغسطس) الماضي لم تُعالِج هذه المخاوف بشكل كافٍ. دعا مؤتمر المانحين الذي انعقد في 9 آب (أغسطس) إلى تحقيقٍ “شفّاف غير مُتحيِّز وموثوق ومستقل” في مصدر الإنفجار – لكن التحقيق كان مشروطاً بدعم الحكومة اللبنانية، وهو أمر لا يملك الرئيس ميشال عون حافزاً كبيراً لتقديمه. علاوة على ذلك، حصل المؤتمر على 250 مليون يورو كمساعدات إنسانية، لكنه دعا الأمم المتحدة بعد ذلك إلى صرف وتوزيع الأموال، على الرغم من شكوك الكثير من اللبنانيين حول ممارساتها. عادة ما توجه الأمم المتحدة المساعدة من خلال الحكومات، حتى تلك التي لديها سجلات فساد أو إجرام. يخشى الناس أنه حتى أموال المساعدة المُخصّصة للمُشرّدين حديثًا ستختفي ببساطة في أيدي الأفراد غير المستحقين لها.

تزوير المساءلة

يُمكن للبلدان المانحة أن تبدأ في بناء الثقة من خلال تسهيل إجراء تحقيق مُستقل حقيقي في الإنفجار. وعليها أن تفرض بأن المساعدة على إعادة إعمار لبنان مشروطة بالتعاون مع مثل هذا التحقيق وقبول نتائجه.

من الواضح أن المؤسسات اللبنانية فشلت في البحث عن إجابات بمفردها. وكلفت الحكومة الشرطة العسكرية بقيادة تحقيق سريع ووعدت بالنتائج في غضون خمسة أيام من الإنفجار. بعد أسابيع، لا تزال النتائج غامضة. إنخرط كبار المسؤولين، بمَن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء الذي استقال أخيراً، في لعبة تبادل اللوم، حيث أنكروا في البداية أي معرفة مُسبَقة بمخزون نيترات الأمونيوم – على الرغم من أن الوثائق المُسرَّبة تُقدم أدلّة على عكس ذلك.

حتى لو أسفر تحقيق الحكومة عن نتائج، فلن يثق به عدد كبير من اللبنانيين. يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التدخل لإنشاء لجنة لتقصّي الحقائق تضم متخصصين لبنانيين ودوليين وتقودها شخصية دولية رفيعة. يُمكن دعوة الدول التي قُتِلَ مواطنوها في الكارثة – بما فيها سوريا ومصر وتركيا وهولندا وأوستراليا وألمانيا وفرنسا وغيرها – لإرسال خبراء. وستسعى اللجنة إلى شرح أصل الإنفجار وتحديد المسؤول عنه. مع بقاء المساعدة في الميزان، ومع إبعاد السلطات التي تقف بمعزل عن المكائد السياسية اللبنانية من مقعد القيادة، فمن المرجح أن ينتج التحقيق نتيجة صادقة وليست ملائمة سياسياً. على عكس التحقيق المقترح في مؤتمر المانحين، فإن التحقيق الذي تنظمه لجنة مستقلة لتقصي الحقائق لن يعتمد على حسن نية الحكومة اللبنانية أو العمل من خلال رعايتها.

إتفاقٌ للبنان

سيحتاج المجتمع الدولي إلى ابتكار نموذج مُحسّن ومتطور لتوزيع المساعدات إذا كان يريد تجاوز الفساد اللبناني. عادة، تقوم الدول الخارجية بإنشاء صندوق استئماني متعدد المانحين يديره البنك الدولي أو مساهمين رئيسيين آخرين، بالتعاون مع الدولة المضيفة. ولكن بالنظر إلى الافتقار المبرر للثقة في الحكومة اللبنانية، يجب على المانحين مثل الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي أن يهدفوا إلى إنشاء سلطة دولية لإعادة الإعمار تكون خارج الولاية القضائية اللبنانية. يجب على المانحين تأطير السلطة في شكل ميثاق – اتفاق يُقدّم للبنان مساعدات بمليارات الدولارات مقابل أداء يُمكن قياسه وإثباته في إعادة بناء المدينة ومينائها.

لن تشرف هذه الهيئة – سمّها هيئة بيروت الدولية لإعادة الإعمار – على المساهمات الدولية فحسب، بل تتحمّل أيضاً مسؤولية استخدامها، وتسعى إلى الحصول على إرشادات ومساعدات من مجموعات المجتمع المدني اللبنانية المؤهّلة. ستقوم هذه الهيئة بالتخطيط والتعاقد والتمويل والإشراف على عملية إعادة الإعمار، وتحديد أولويات إعادة بناء المدينة واختيار شركائها. يجب أن يتألّف طاقمها بشكلٍ أساس من متخصّصين لبنانيين مستقلّين سياسياً معروفين بنزاهتهم ومهنيتهم​​، بينما يجب أن يضم مجلس إدارتها أغلبية دولية توافق عليها الدول المانحة. سيحتاج جميع المانحين لإعادة الإعمار إلى العمل من خلال الهيئة وليس من خلال الوكالات الحكومية المحلية، كما فعل المانحون في الماضي.

الإتفاقات التي تفرض شروطاً على المساعدة والأداء ليست جديدة. دعمت الأمم المتحدة اتفاقات إعادة الإعمار المماثلة في العراق وأفغانستان بعد الغزو الأميركي في العامين 2001 و2003، ولكن بنجاح محدود. لم يكن المانحون دائماً مُنَسقّين بشكل جيد، وبعضهم تردّد في قطع وإيقاف المساعدات حتى عندما فشلت الحكومات المضيفة في الوفاء بالتزاماتها. على النقيض من ذلك، تُقدّم “مؤسسة تحدّي الألفية” (Millennium Challenge Corporation)، وهي وكالة أميركية مستقلة للمساعدات الخارجية، المساعدة الأميركية لعشرات البلدان التي تفي بمتطلبات الأهلية. وقد حفزت هذه المعايير بشكل فعّال على الإصلاح المحلي في البلدان المُتلقّية، والتي سجّلت الوكالة درجات على أدائها وشفافيتها وجهودها لتعزيز الملكية المحلية. يحتاج لبنان إلى الدول المانحة لإنشاء آلية تعاقدية ذات مصداقية مماثلة، حيث تتعهّد الحكومة المضيفة بإصلاحات مقابل مساعدات إعادة الإعمار. يجب أن يكون المانحون على استعداد للإنسحاب إذا فشل لبنان في تنفيذ ما عليه تنفيذه من الصفقة.

مشاكل القيادة

لن يتمكن المانحون الأجانب من تجنّب السياسة اللبنانية المُعقّدة كلياً، بغض النظر عن كيفية تعاملهم مع إعادة الإعمار. وبدلاً من ذلك، تحتاج الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي إلى ضمان أن الدولة اللبنانية تُلبّي مطالب شعبها لقيادة جديدة. يجب تمكين الحكومة الجديدة لسنّ إصلاحات مُصمَّمة لإدارة الأزمة الإقتصادية الحادة في البلاد. يُمكن للمانحين معاً دفع هذا الطلب الصعب إلى الأمام. لكن إذا فشلوا في التحدث بصوت واحد، فسيواصل القادة اللبنانيون الحاليون العمل كالمعتاد ويتجاهلون مطالبهم.

“حزب الله”، الميليشيا والحزب السياسي الشيعي، يطرح مشكلة واضحة. لديه النفوذ الاقتصادي والدعم الشعبي للعب دور مهم في إعادة بناء بيروت. حتى أن وكالاته التي تقوم بالخدمة الاجتماعية لديها تاريخ في تقديم المساعدات وإدارة مشاريع إعادة الإعمار في بيروت بعد حرب 2006 مع إسرائيل. لكن “حزب الله” جزء من هيكل الحكم الذي تسبّب في كارثة المدينة الأخيرة. علاوة على ذلك، صنّفت واشنطن الحزب على أنه منظمة إرهابية وتراه خصماً بسبب صلاته بإيران وعدائه لإسرائيل. سترغب الولايات المتحدة في استبعاد المجموعة من جهود إعادة الإعمار وقد تفرض عقوبات جديدة عليها. لكن استبعاد “حزب الله” أو معاقبته سيثبت أنه يُسبّب الإنقسام، ويؤدي إلى نفور بعض شرائح اللبنانيين وإرضاء آخرين. سيتعيّن على المانحين إيجاد تسوية مؤقتة مع منظمة تحظى بولاء العديد من اللبنانيين.

إن عمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي صار معروفاً في لبنان. لقد عانت بيروت من أضرار، سياسية ومادية، سيكون إصلاحها صعباً ومُكلفاً. يحتاج لبنان إلى حُكمٍ لائق وازدهارٍ عادل، ليس فقط كشيئين جيدين في حد ذاتهما، ولكن لأنه بدونهما يُخاطر البلد بأن يُصبح دولة فاشلة أخرى في منطقة تعاني بالفعل من الهجرة غير المنضبطة والتطرف السياسي والصراع العنيف. من الأفضل المساعدة على إصلاح بيروت بدلاً من تركها مهجورة. لقد ناضل اللبنانيون بشكل صعب وكبير ومن غير العدل أن يروا بلدهم ينزلق مرة أخرى إلى الفوضى.

  • دانيال سيروير هو مدير إدارة الصراع وبرامج السياسة الخارجية الأميركية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز. ورندا سليم هي مديرة برنامج حوارات المسار الثاني وحل النزاعات في معهد الشرق الأوسط وزميلة غير مقيمة في معهد السياسة الخارجية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى