مئوية لبنان الكبير: من الجنرال غورو إلى الرئيس ماكرون

بقلم السفير يوسف صدقة*

قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة خاطفة إلى لبنان، بعد يومين من الإنفجار الكبير الذي دمّر مرفأ بيروت وقسماً كبيراً من أحيائها في السادس من آب (أغسطس) 2020. أتت زيارة ماكرون في وقت عصيب، لم تشهده العاصمة اللبنانية من تدمير وخراب وتهجير حتى في أثناء الحرب اللبنانية 1975 – 1990، والحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006.

وقد اعتبر ماكرون أن زيارته هي تجسيد للصداقة والتضامن الأخوي مع الشعب اللبناني، لأن هناك علاقات تاريخية طويلة تربط لبنان ببلاده،  وأن فرنسا ستبقى “الأم الحنون” للبنان الوطن. وأكد “أننا لن نتخلّى” عن بلد الأرز.

وأفاد أنه جاء إلى لبنان ليُعبّر عن دعم  الأمة الفرنسية والشعب الفرنسي للشعب اللبناني وأن لبنان الوطن ليس وحيداً في هذا العالم. كما دعا القيادات اللبنانية إلى تنفيذ الإصلاحات السياسية والإقتصادية ومكافحة الفساد.

تأتي تصريحات ماكرون، في إطار السياسة الفرنسية العامة تجاه لبنان، والتي عبّر عنها، سابقاً، الرئيس الراحل جاك شيراك، بأن لبنان هو حجر الزاوية  للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط.

إستُقبِلَ الرئيس الفرنسي إستقبالاً شعبياً لافتاً، نظراً إلى ما تختزنه غالبية اللبنانيين في الوجدان من مودة واحترام لفرنسا، وكعرفان للجميل لرئيسٍ زار لبنان، بعد الكارثة الكبرى التي أصابت بيروت.

ونظراً إلى خيبة أمل غالبية اللبنانيين من السلطة الحاكمة، وعدم مُبالاتها وتقاذف المسؤوليات في انفجار المرفأ، وإلى الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي الذي حلّ في لبنان في السنوات الأخيرة، طالب البعض عن حماس ويأس بإعادة الإنتداب الفرنسي إلى لبنان.

تجدر الإشارة إلى أن الإنتداب الفرنسي على لبنان، والذي أقرته عصبة الأمم، إستمر من العام 1920 إلى العام 1943. وقد شعر الشعب اللبناني أنذاك بشيء من الإرتياح، بعدما ذاق اللبنانيون الأمرّين في العهد العثماني والذي استمر من العام 1516 إلى العام 1918، وكانت قمة القهر والذل في الحرب العالمية الأولى في العام 1914، حيث مات مئات الآلاف بسبب المجاعة والسخرة.

أنشأ الإنتداب الفرنسي المؤسسات الدستورية اللبنانية، وبنى البنية التحتية، والمصالح كالمياه والكهرباء، وسكة الحديد، وتم توسيع مرفأ بيروت، إلا أن بعض المفوضين السامين، ومنهم جان هِلّلو، حاول تعطيل المؤسسات الدستورية، ما أدّى إلى قيام ثورةٍ شعبية سلمية عملت على إنهاء الإنتداب الفرنسي للبنان، وأعلن إستقلال لبنان في العام 1943.

تعرّف اللبنانيون عن قرب، إلى الرئيس  الفرنسي، فبدا خطيباً مُفوّهاً، يأسر المستمعين بشخصيته الجذابة، حيث يعتمد على لغة ديبلوماسية صارمة، مُطعَّمة بالفلسفة، وجرأة تختزن تاريخ وعظمة فرنسا، تُذكّرنا برؤساء فرنسا العظام، من شارل ديغول وجورج بومبيدو وفرنسوا متيران وجاك شيراك.  وقد أظهر معرفة دقيقة في الوضع اللبناني المُعقَّد والمُتشعّب. وفي لقائه في قصر الصنوبر (السفارة الفرنسية في بيروت) تحدّث إلى الزعماء اللبنانيين بصراحة تامة، حيث خلع اللغة الديبلوماسية، وحمّلهم مسؤولية كبرى في الحفاظ على لبنان، وطلب منهم مباشرة الإصلاحات السياسية والإقتصادية قبل سقوط الهيكل على الجميع.

وقد دعا الرئيس الفرنسي بعد عودته إلى باريس، إلى مؤتمر دولي بالتعاون مع الأمم المتحدة في 9 آب (أغسطس) الماضي لمساعدة لبنان، وقد تم تأمين 250 مليون يورو في المؤتمر، حيث بلغت حصة فرنسا 30 مليون يورو.

ماكرون: لبنان وشرق المتوسط

أتت زيارة ماكرون إلى لبنان،  في فترة زمنية حساسة، حيث يحتدم الصراع في شرق المتوسط، لاستغلال الموارد الغازية والنفطية، فالحرب البحرية في ما يتعلق بالمناطق الإقتصادية الخالصة (EEZ) هي على أشدها، بين تركيا وفرنسا واليونان ومصر وليبيا وقبرص وإيطاليا.

ونظراً إلى ضعف الموارد الغازية البترولية لديها، وقّعت أنقرة إتفاقية مع حكومة السراج في لبيبا، حول المنطقة الإقتصادية الخالصة للطرفين، مقابل الدعم التركي العسكري لحكومة السراج  ضد اللواء خليفة حفتر. وأتى تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يضم مصر، إسرائيل، الأردن، اليونان وقبرص، ليبث القلق في الحكومة التركية والتي أعترضت على المنتدى، لأنه أدى إلى إستبعادها من خطوط الغاز في شرق المتوسط.

وقد أتى الحضور العسكري البحري الفرنسي في شرق المتوسط ومنه لبنان، لدعم اليونان وللوقوف في وجه الطموحات التركية.

تجدر الإشارة إلى أن الحضور العسكري الفرنسي في لبنان، يلقى موافقة أميركية. كما أن القلق الفرنسي من التواجد التركي في شرق المتوسط وفي ليبيا، حتّم على فرنسا، إعادة إحياء دورها في شرق المتوسط.

فرنسا ولبنان: صفحات من التاريخ

تعود العلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا إلى ألف سنة، إثر الحملات الصليبية، حيث ظهرت أولى بوادر الإنفتاح بين الغرب ولبنان، فكان التلاقي بين الملك لويس التاسع في العام 1249 في الحملة الصليبية السابعة، والحملة الصليبية الثامنة في العام 1270، مع القيادات اللبنانية في الجبل. وإستمرت العلاقات، عبر الإرساليات التبشيرية والتجارية إلى جبل لبنان والشرق. وتعزّزت العلاقات مع العلّامة ابراهيم الحاقلاني، مبعوث الأمير فخر الدين الثاني لدى دوق توسكانا، والأستاذ في الكليات الشرقية في باريس. فقد أقام علاقات على أعلى المستويات في فرنسا، والتقى الملك لويس الرابع عشر، وعمل على دعم مشايخ  آل الخازن الموارنة، بتوصية من البابا، من أجل تعيين الشيخ نوفل الخازن قنصلاً لفرنسا في بيروت، فكان أول لبناني يحصل على هذا المنصب. لقد كان معروفاً للأوروبين أن جبل لبنان، هو ملجأ للموارنة وبعض الأقليات المسيحية. لذلك كان الحجاج الأوروبيون يزورون جبل لبنان في طريقهم إلى القدس.

وقد زار بول دوكاس، مندوب الملك لويس الرابع عشر، جبل لبنان في  ثلاث رحلات، بين العامين 1704 و1749، وقد إجتمع بالبطريرك إسطفان الدويهي في وادي قنوبين. مرت العلاقة الفرنسية مع الموارنة بمحنة لفترة بسيطة، عندما إحتل نابوليون بونابرت إيطاليا حيث أغلق المدرسة المارونية في روما، وباع أملاك الطائفة بالمزاد العلني في العام 1812.

أما عندما حلّت الفتنة في الجبل خلال 1840-1860، فقد أرسل نابوليون الثالث فرقة فرنسية إلى جبل لبنان لطمأنة المسيحيين وتوزيع المساعدات الإنسانية، ما ساهم في بلسمة الجراح، بعدما شارك العثمانيون في الفتنة بالتحريض والدعم والسلاح …

يبقى أن فرنسا حاولت أن تحقق مصالحها في الشرق عبر العلاقات الثقافية والدينية، وذلك إما من طريق معتمديها الديبلوماسيين أو من طريق الإرساليات التبشيرية والثقافية.

ولادة الكيان اللبناني

وُلِدَ الكيان اللبناني على أثر التفاعل والعلاقات التاريخية بين فرنسا والموارنة … فقد تلازم تاريخ المارونية مع تاريخ لبنان، منذ أن وجد الموارنة في الجبل مرتع حرية، وملجأ أمان.

حافظت الجماعة على هويتها وكان لها الدور الأساس في إنشاء لبنان الكبير، الأمر الذي جعل يعضهم يقول “أن المارونية ولبنان صنوان” حسب المؤرخ د. جوزف بو نهرا.

إن هذا الإرث التاريخي، والتعلّق بالأرض وبالحرية، حمل البطريرك الياس الحويك إلى الدفاع عن الكيان اللبناني في مؤتمر الصلح في فرنسا في العام 1919، حيث ترأس وفداً بإسم الطوائف والقيادات اللبنانية، وقد فاوض الرئيس كليمنصو بعناد أهل الجبل وصلابة أرز لبنان، وقد توصل بعد مفاوضات مضنية إلى إنشاء لبنان الكبير، بعد ضم الأقضية الأربعة، مُستنداً إلى خارطة رئاسة الأركان الفرنسية والتي تم تحديدها في العام 6418. هذا وقد أعلن الجنرال هنري غورو في قصر الصنوبر وبحضور القيادات اللبنانية عن إنشاء “دولة لبنان الكبير” في احتفال مهيب.

إحياء مئوية لبنان الكبير

يُحيي لبنان مئوية لبنان الكبير، بحضور الرئيس الفرنسي ماكرون الذي وعد بزيارة لبنان في الأول من أيلول (سيتمبر)، بعد زيارته الأولى في 6 آب (أغسطس) إثر الإنفجار الزلزال، الذي دمر المرفأ وقسم كبير من مدينة بيروت. تأتي زيارة ماكرون، في إطار تعزيز العلاقات التاريخية بين لبنان و فرنسا. فلئن كان للدول الكبرى مثل فرنسا،  مصالح استراتيجية في شرق المتوسط، فإنه يجب الأخذ بعين الإعتبار الأبعاد الإنسانية والثقافية والتاريخية في العلاقة بين البلدين، والتي تحرص عليها السلطات الفرنسية، أياً يكن الحزب الحاكم. فدعم الكيان اللبناني يحظى بشعبية، لدى النخبة والشعب الفرنسي بشكل عام، والحرص الفرنسي على الإستقرار في لبنان يُعتبر من ثوابت السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط.

إجتمع الرئيس ماكرون في زيارته الأولى بالقادة السياسيين، وخلص إلى خارطة طريق وضعها بين أيدي المسؤولين، وتتمثل بتشكيل “حكومة المهمة” (Gouvernement de mission)، تليها الدعوة إلى انتخابات مبكرة، حيث تعمل الحكومة على برنامج تلتزم به بوقف الإنهيار المالي والإقتصادي. وقد حذر وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان من خطر زوال لبنان. وقد اعتبرت الأوساط الديبلوماسية أن كلامه يأتي في إطار إنذارٍ للسلطة الحاكمة، والسؤال المطروح هل تتجاوب السلطة مع مبادرة ماكرون، فتعمد إلى تنفيذ خارطة طريق تُنقذ لبنان من الوقوع في حافة الهاوية. فهل يتعظ القادة اللبنانيون من الكارثة الأخيرة التي حلت في لبنان؟ و يستمعون من جديد الى خطاب الجنرال غورو لدى إعلان دولة لبنان الكبير في  الأول من أيلول 1920؟ “لا يمكن لدولة أن تتقدم إلا بإلغاء الفردية إزاء الخير العام والمصلحة العامة، والإيمان بالمصالح الوطنية الأساسية”.

  • السفير يوسف صدقة ديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى