مِئوِيّة مُضَرَّجة بالدماء والحروب

بقلم الدكتور فيليب سالم*

يا لها من مئوية! مئة سنة من الدماء والحروب والدموع. وهل هناك من وطن في العالم، رأت عيناه ما رآه هذا الوطن؟ وبعد، فهو لا يزال على طريق الجلجلة. يحمل صليبه ويمشي. “يقتلونه كل يوم ولكنه يرفض أن يموت”.  وهل كان يحلم البطريرك الياس الحويك أن هذا المولود الجديد الذي وُلِدَ في 1 أيلول (سبتمبر) 1920 سيكون بعد 100 سنة على هذا الفشل المدوّي وهذا الجحيم من الألم واليأس؟ ومن يصدق أن بيروت التي كانت يوماً “أم الشرائع”، تُطالب اليوم وكلّما وقعت جريمة فيها، بتحقيقٍ دولي. تحقيقٌ خارج بيروت. لقد ماتت الشرائع في بيروت، وهجرها العدل من زمان. وأكثر ما يؤلم هذا اللبنان، ان الذين يقتلونه كل يوم، هم من أهل بيته. هم مَن يدّعون محبته. لذا نريد منه ان لا يطلب من الله ان يغفر لهم ” لأنهم يدرون ماذا يفعلون”.

نحن لن نيأس. لن ننام. ولن ندعه يموت. سنُعيده الى الحياة من تحت الركام. لذا جئنا نقترح العودة الى مكان ولادته. الى فرساي. جئنا ندعو الى مؤتمر دولي حول لبنان يُعقد في باريس برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون وبحضور دولة الفاتيكان ودول الغرب. مهمة هذا المؤتمر تحقيق الأهداف التالية:

  • الاتفاق على ما يشبه “خطة مارشال” “Marshall plan” لإعمار لبنان ومساعدته للنهوض من الركام الاقتصادي والمالي. إن فرنسا تعرف جيداً أهمية هذا المشروع الذي اطلقه الرئيس الأميركي هاري ترومان مع وزير خارجيته جورج مارشال بهدف إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
  • وضع لبنان تحت إشراف مظلة دولية لمدة انتقالية، يُلملم فيها جراحه، ويُرمّم مؤسساته. فلبنان اليوم بحاجة ماسة الى ضمانة دولية. ضمانة سياسية وأمنية. إن هذا الوطن الصغير هو ضحية الجغرافيا. لقد وُلد في بيئة جغرافية تتآكلها الأزمات السياسية والحروب الدينية. فمن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الى النزاعات بين دول الشرق الأوسط، الى حركات الإرهاب والتطرف الديني، الى التمدد الإيراني في العالم العربي. هذا التمدّد الذي يقبض اليوم على القرار الوطني اللبناني. إن مشكلتنا ليست مع إيران، الشعب الأبي والتاريخ المليء بالتراث الحضاري؛ بل مع الثورة الإسلامية الإيرانية التي تأخذ من لبنان رهينة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة والعالم، وساحة لحروبها ضد العرب والغرب. والخطر الكبير أن هذه الثورة تُصدّر حضارة هي نقيض الحضارة اللبنانية . فبينما يرمز لبنان الى التعددية الدينية والتعدّدية الحضارية ومُعانقة الآخر بغض النظر عن حضارته ودينه؛ ترمز الثورة الإسلامية الى الحضارة الأحادية وتعتبر “الآخر” خارج عائلتها. إن الرؤيا السياسية التي تُولد من رحم الإيدولوجية الدينية تُشكّل خطراً على الانسان.
  • ضمان حياد لبنان. إن حروبنا كانت “حروب الآخرين” على أرضنا وعلينا. نحن لم نعتدِ على أحد. لقد أعتُدِيَ علينا. ولكنه يجب ان نعترف أننا اعتدينا على أنفسنا، على سيادتنا، وعلى وطننا. بسببنا كانت “حروب الآخرين”؛ لأننا لم نتمكن كمُسلمين ومسيحيين من صنع رؤيا مُوحَّدة للبنان وسياسة خارجية لحمايته. بعد خمس عشر سنة من الإستقلال بدأت الحروب في لبنان. ففي سنة 1958 قامت الحرب الأولى عندما أراد الرئيس جمال عبد الناصر أن يضم لبنان الى الجمهورية العربية المتحدة التي لم يُكتَب لها الحياة. ثم جاء اتفاق القاهرة حيث تنازلت الدولة عن سيادتها في جنوب لبنان. ثم جاءت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات الى بيروت. وثمة من يعتقد ان عرفات كان ينوي تحويل لبنان الى بلد بديل. وهكذا بدأت في سنة 1975حروب لبنان. وبعد ان غادرت منظمة التحرير الفلسطينية لبنان سنة 1982، جاء النظام السوري يريد احتلالنا. وها نحن اليوم في قبضة المحور السوري-الإيراني. لقد تكلّمنا الكثير عن الحياد. الحياد الفاعل الذي يصبّ في مصلحة لبنان العليا. وها نحن اليوم ندعم بكل قوتنا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في طرحه لمفهوم الحياد كحلّ لأهم مشاكل لبنان. مشكلة هيمنة الآخرين على الأرض وعلى الإنسان فيه.

هذا ما نطلبه من العالم، فماذا نطلب من أهلنا؟ نقول الى اللبنانيين تعالوا نبنيه من جديد. فنحن لا نريد ان تكون المئوية الثانية شيئاً يُشبه المئوية الأولى. تعالوا نبنيه على مرتكزات جديدة تؤمّن له الحياة والسلام والإستقرار. وهذه هي المرتكزات التي نقترحها:

  • الإنصهار المسيحي – الإسلامي. نحن لا نؤمن بمفهوم “الشراكة المسيحية-الإسلامية”، ونرفضه. كما أننا لا نؤمن بمفهوم “العيش المشترك” ونرفضه كذلك. هذه مفاهيم أسَرَتنا وراء حدود الطائفة، وجَعَلتنا شعبين مُختلفَين ولكنهما يتعايشان على أرض واحدة. بعكس ذلك نحن نؤمن أننا شعبٌ واحدٌ لا شعبين. نؤمن بانصهار مسيحي-اسلامي في مواطنة واحدة. نحن لسنا مسيحيين ومسلمين. نحن مواطنين. إن مفهوم “الشراكة المسيحية – الإسلامية” ومفهوم “العيش المشترك” هي مفاهيم زرعها رجال الدين في اللاوعي فينا لترسيخ نفوذهم وللتفرقة بيننا. لذلك كنا عند كل مفصل تاريخي أو قرار مهم، تنهار هذه الشراكة وننقسم على أنفسنا ونعود الى مربعات طوائفنا. من أجل ذلك لم نعرف أي لبنان نُريد. من أجل ذلك قتلنا بعضنا البعض. نحن ندعو الى الثورة على هذه المفاهيم التي فرّقتنا لمئة سنة ومنعت قيام الدولة. لقد آن الأوان أن نتحرّر من سلاسل الطائفية ونعتنق المواطنة الحقيقية. لقد آن الأوان لفصل الدين عن الدولة، والأهم من ذلك فصل الدين عن التربية. لقد آن الأوان لنبني الدولة المدنية. وحدها الدولة المدنية تفك ارتباطنا بالماضي وتأخذنا الى المستقبل بحيث نصبح مواطنين لا رعايا.
  • الثقافة السياسية. في المئوية الأولى بنينا دولة عدوّة للمواطن. دولة تخدم ” الزعيم”. الزعيم السياسي والزعيم الديني. وتخدم أيضا أزلام الزعيم. كانت دولة ازلام من رأس الهرم الى القاعدة. أوَتسألُ لماذا لم تُبنَ الدولة؟ وهل للأزلام القدرة على بناء دول؟ ونظام المحاصصة! من الوزير الى أصغر موظف هو حصة أحدٍ ما. وبذا يُصبح ولاء “ابن الدولة” ليس لعمله أو للبنانه بل لزعيمه. وتأمّلوا في مفهوم الحكم عندنا، فالحكم ليس مسؤولية كبيرة كما يجب أن يكون بل وجاهة كبرى كما يجب أن لا يكون. وأفضل مثل على ذلك هو انفجار المرفأ. اخذونا كلنا الى الموت في المرفأ. وعلى الرغم من هَول ما حدث، ما زلنا نخاطب الوزير ب”المعالي” والنائب ب” السعادة”. في المئوية الثانية يجب أن نُدمّر المُعوِّقات التي منعت قيام الدولة: النظام السياسي الطائفي؛ نظام المحاصصة؛ إيديولوجية الزعيم المُتسلّط على السلطة وإيدولوجية الحكم اللامسؤول. في المئوية الثانية نحتاج الى قادة لا زعماء، الى احرارٍ لا أزلام.
  • وأكثر ما يحتاج لبنان إليه في المئوية الثانية هو قومية لبنانية جديدة. وكنا طرحنا مفهوم هذه القومية من قبل*. في هذه القومية لبنانٌ وطنٌ نهائي لجميع أبنائه كما جاء في اتفاق الطائف. نهائيٌّ بمعنى انه لا يذوب في كيانٍ آخر. وجئنا اليوم لنقول ما لم يقله الطائف: إنه لجميع أبنائه وحدهم، فهو ليس وطناً لجميع الذين لا وطن لهم. ونقول أيضاً إنه لن يكون تابعاً لكيان آخر. وفي هذه القومية أيضاً أن هناك ارضاً واحدة في كل الأرض تكون أرضنا. لهذه الأرض يجب ان نُقدّم الولاء المُقدّس. إن لبنان موجود في الجسد في الشرق، ولكنه في الحضارة فهو موجود في العالم كله. لهذا اللبنان نُعلن له وحده الولاء المُطلَق، ولكننا في الوقت نفسه نُعانقُ بمحبة وفرح جميع البشر.

ونعود الى الثوار لنقول لهم أنتم رعاة المئوية الثانية. في المئوية الأولى لم يَبنِ أهلكم وطناً يليق بكم. لذا ندعوكم في المئوية الثانية أن تبنوا وطناً يليق بأبنائكم. وتعالوا كلّنا، مُسلمين ومسيحيين، نركع ونُصلّي معاً ونقول: “كن معنا يا الله. لا تحجب وجهك عنّا”.

  • دكتور فيليب سالم هو طبيب وأخصائي في الأورام السرطانية. وهو يرأس حالياً مركز سالم للأورام السرطانية في هيوستن، تكساس.
  • يصدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى