حكمٌ حِرَفي: القرائنُ تُضاهي الإدانة!

بقلم راجح خوري*

لم تكن المحكمة الدولية التي أصدرت أمس حكمها في جريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، محكمة على غرار محاكم نورمبيرغ التي بدأت في ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٥ بعد الحرب العالمية، لكنها اكّدت في نطقها للحكم أنها بعيدة كلياً من التسييس وهو ما اتهمها البعض بها، وكانت مهنية شديدة الإحتراف، إلتزمت بأمانة القانون الخاص لتشكيلها، الذي ينص صراحة على عدم صلاحيتها في توجيه الإتهام او الإدانة الى حزب او دولة. وهذه نقطة جوهرية مُهمّة جداً ليس غريباً ان تكون قد فاتت على الذين كانوا ينتظرون حُكماً غير الذي نطقت به، لكن الرئيس الرئيس سعد الحريري قَبِلَ به وكل الذين يعرفون صلاحيات المحكمة أصلاً يقبلون بكل تفاصيله إدانة وحيثيات!

يتعيّن الوقوف بعناية عند مجموعة واسعة من “عناصر الظنّ والإحتمال” التي وردت في حيثيات الحكم الذي نطقت به المحكمة، كما يتعيّن طبعاً الوقوف عند أهمية إدانة سليم عياش عضو “حزب الله”، بتنفيذ عملية تفجير إرهابية تمّت تنفيذاً لأهداف سياسية، وأدّت الى استشهاد الرئيس الحريري ورفاقه، اما حسين العنيسي وأسد صبرا وحسّان مرعي فهم ليسوا مُذنبين بكلّ التهم المُوجَّهة إليهم، بينما رأت المحكمة ان القيادي في “حزب الله” مصطفى بدر الدين هو من خطّط لعملية الإغتيال، إلّا أنه قُتِلَ لاحقاً في معارك سوريا.

الحُكم لم يتّهم “حزب الله” ولا النظام السوري، فليس هذا من صلاحية المحكمة وفق نظام إنشائها، لكنه لم يوفّرهما في سرد الحيثيات والظنون والإحتمالات التي سردها القضاة الأربعة، وفي هذا السياق من الضروري التوقّف مليّاً أمام إعلان المحكمة أن عملية “اغتيال الحريري عملٌ سياسي أداره مَن كان الحريري يُشكّل تهديداً لنشاطهم وأن منافع اغتياله لهم أكبر من أضراره مهما بلغت”.

يجب التوقف ملياً عند الحيثيات،التي تقول أن عملية إغتيال الحريري لا يُمكن ان تكون بعيدة من المواقف السياسية، وأن من الضروري التوقّف عند الخلفية السياسية للجريمة لفهم دوافع الإغتيال. ثم يأتي في سياق هذا السرد، ان الأدلّة أثبتت سيطرة سوريا على النواحي السياسية والعسكرية والأمنية في لبنان، وأن عملية الإغتيال تزامنت تقريباً مع زيارة الوزير وليد المعلم للحريري في بيروت، ثم اجتماع المعارضين اللبنانيين للهيمنة السورية في لقاء البريستول.

لكن المُثير والواضح ان المحكمة المُحدَّدة الصلاحية التي تبني حُكمها على القرينة، والتي تلتزم قواعد الحرفية المثبتة البعيدة عن السياسة، وعن الحق في توجيه الإتهام الى حزب او دولة، لم تتردّد في القول أنه ربما كانت لـ”حزب الله” وسوريا دوافع لتصفية الحريري، ولكن ليس هناك من دليل على ضلوع الحزب وسوريا في عملية الإغتيال .

من الضروري جداً ونحن الآن تحت هَول جريمة العصر التي دمرت المرفأ ونصف بيروت، وقتلت أكثر من ٢٠٠ وجرحت أكثر من خمسة آلاف وشرّدت مئآت الآلاف ان نتوقف بدقة امام الحيثية القرينة، التي وردت في سياق حكم المحكمة الدولية، والتي تقول ان التحقيق الذي قادته السلطات اللبنانية في البداية كان فوضوياً ، وأنه تم العبث بمسرح الجريمة وأن الأمن اللبناني أزال ادلّة مهمة من موقع التفجير .

على كلّ هذا يجب ان يُشكّل الحكم الشديد المهنية والوضوح، بداية مرحلة العقاب الرادع للجريمة السياسية، ولبنان مُفعمٌ بدماء الشهداء الذين اغتيلوا لاسباب سياسية، والذين تنام الجرائم التي أودت بهم في ملفات المجلس العدلي .

أبو بهاء ستبقى شعلة في تاريخ لبنان، وسيبقى شعارك صارخاً : “لا يصحّ إلا الصحيح”، وفي قرار المحكمة إدانة وحيثيات ظنّية، عدالة واضحة جداً.

  • راجح خوري هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Rajeh.khoury@annahar.com.lb أو متابعته عبر تويتر على: @khouryrajeh
  • يصدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة النهار اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى