لم يَـحكُمُوا شعبَ لبنان بل تَـحَكَّمُوا به

بقلم هنري زغيب*

الثلثاء 14 تموز/يوليو 1789: إنفجرَت الثورة الفرنسية بهجوم الثوَّار الغاضبين على معتقل التعذيب في سجن الباستيل، وخلْعِهم بوابتَه، وإِنهائهم عهدًا طويلًا من التسلُّط في قصر ڤـرساي، ظلُّوا يوجِّهون إِليه سهامهم الثائرة بتهمة الفساد، مَلِكًا وحاشيةً، حتى جرُّوا سيِّدة القصر ماري أَنطوانيت إِلى المحاكمة الثورية فالمقصلة التي انهالت على رأْسها بلا رحمة.

الثلثاء 4 آب/أغسطس 1789: إنفجرَت خلافات في الجمعية الوطنية التأْسيسية أَدَّت إِلى إِلغاء امتيازات النبلاء والإِكليروس ومحاصصاتهم، وإِنهاء الحكْم المُطلَق، وتدمير النظام الإقطاعي، ما كان نتيجة حتمية للثورة الفرنسية بقيام نظام جديد لفرنسا مبنيٍّ على حقوق المواطن مُتحرِّرًا من طغيان الحكَّام وأَزلامهم ومحاسيبهم السالبينَ حقوقَ الشعب، المُتسلِّطين على مصيره مُستَقْوين بأَركان الطبقة الحاكمة الفاسدين الـمُفْسدين.

الثلثاء 4 آب/أغسطس 2020: إنفجرَت عنابر مرفأِ بيروت التاريخي في أَسوأِ كارثة حلَّت على بيروت منذ زلزالها الأَخير قبل قرون (1759 ترجيحًا)، وما زالت تردُّداتُه تتوالى مأْساويةً دائمة يزيد من خطرها الداهم تَرَدُّد أَولياء هذه السلطة الهشّة الذين انكشفَت عوراتُهم الخبيثة السرطانية القاتلة، وسقطَت عنهم أَقنعتُهم الكرتونية فبانت وجوهُهم القبيحة، وترجرَجَت تصاريحهم المتناقضة، وسقطوا حتى من عيون أَزلامهم، ووقعوا في خيبة موجة شعبية كانت حتى اليوم تُصدِّقهم وتَنقاد معهم إِلى أَحلامٍ تبيَّن أَنها أَوهام.

موجعٌ قهرًا أَن يُطلَّ فجر لبنان الجديد من ليل يتامى وأَرامل وضحايا أَبرياء ودمار رهيب، لكنَّ هذا قدَرُ الولادة أَن تصاحبَها آلامٌ قاسيةٌ تَنقُل الجنين من ظلمة الأَحشاء إِلى نور الحياة.

إِذا كان انفجار ليلة الثلثاء 4 آب/أغسطس 1789 ولَّدَ فجرًا جديدًا لجمهورية فرنسا، فإِن انفجار ليلة الثلثاء 4 آب/أغسطس 2020 سيولِّد فجرًا جديدًا لجمهورية لبنان الرازحة منذ عُقودٍ في عتمة الفساد من عهدٍ إِلى عهد ومن حكومةٍ إِلى حكومة ومن مجلس نيابي متناسِل الإِرث إِلى مجلس نيابي متواصلِ التوريث. وسوف يكون صباحٌ للبنانَ طالعٌ من ثورة أَبنائه جيلًا جديدًا لا مُنتميًا لا محسوبًا لا مُستزلـمًا لا طائفيًا لا مذهبيًا، جيلًا جامعيًّا ثقيفًا عَلْمانيًّا يحترم الدين إِنما في بيوت الدين لا في قصور الحكْم، ويحترف السياسة بشخصيات مَواهب لا بِــلُوردات مذاهب، ولا برجال سياسةٍ مُتناسلين من جيل إِلى جيل يستخدمون الشعب في خدمتهم بل برجال دولة متنوِّرين مخْلصين يستخدمون خبراتهم في خدمة الشعب، ويعيدون إِليه حقوقه المسلوبة باسم ديموقراطْيَا پــرلمانية مزيَّفة هي منذ عقودٍ قناعُ توتاليتارْيَا غبيَّة.

عندئذٍ نأْمل بولادة جمهورية لبنانية جديدة تكسر قيود سياسيين لم يُديروا دولة لبنان بل نهشُوها، ولم يحكُموا شعب لبنان بل تحكَّموا به.

وعندئِذٍ يمكننا القول عن الثلثاء: إِذا هو اليوم الثالث من الأُسبوع، فاليوم الثالث أَيضًا علامةُ لبنان الخالد: يَصلُبُه اليوضاسيون الـخَوَنة كلَّ مرة ويظنُّونه لَوَى رقبتَه مُحتَضرًا ومات، لكنه كلَّ مرة ينهض أَقوى، ويُدحرج الحجر عن ليلِ مأْتَـمه فيقوم من الموت فجرًا ساطعًا، ويكون عرسُ اليوم الثالث.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو على تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العربتَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار”  – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى