ومن الإصلاحات يبدأ النهوض!

بقلم فيوليت غزال البلعة*

حتى في اليوم الثامن، لم تَسترِح بيروت من هَولِ الفاجعة، فالصدمةُ كبيرة، وهي بحجم الأضرار البشرية والمادية والمعنوية، بدليل أن التردّدات التي أطاحت حكومة حسان دياب لم تنجح بَعد في بَلورة خريطة طريق تكفل تعبيد المرحلة المقبلة على وقع عملية إنقاذ شاملة تنهض بالبشر والحجر.

حتى في اليوم الثامن، لم تستطع التوقّعات والمُسوحات الأوّلية تحديد حجم الخسائر. فالتردّدات ستظهر تباعاً لتزيد من عمق الأزمات التي كانت تُعكّر مناخ لبنان قبل جريمة الرابع من آب (أغسطس). تحدّث كثرٌ عن حجم خسائر انفجار بيروت، وسالت المبادرات الداعمة لتقديم مساعدات عاجلة وليس لإعادة الإعمار. وفق التقديرات الأولية، راوحت الخسائر ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار، يُمكن إضافتها إلى حاجة لبنان من السيولة بما قدّرته حكومة إستشاريي حسان دياب بنحو 25 مليار دولار، ليصبح إجمالي الأموال الطازجة المطلوبة لإنعاش الاقتصاد بنحو 30 ملياراً. فمن أين للبنان بهذا الرقم الهائل في زمن الشحّ الكوروني، فيما “انفتاح” المجتمع الدولي و”تعاطفه” مع لبنان لم يفضِ إلى دعمٍ بأكثر من 325 مليون دولار؟

لعلّ من المُفيد تفنيد حجم الخسائر، المادية والمعنوية، المُباشرة وغير المباشرة، القصيرة والبعيدة الأمد، لتأتي الحسابات متوافقة مع تدني التوقعات بدوران عجلة الإقتصاد. وهذا ما سيتيح للحكومة الجديدة تحديد لائحة الأولويات، وخصوصاً بعد مرحلة “إهدار الوقت والفُرص” التي طالت لسبعة أشهر، وجرّدت البلاد بفعل المُكابرة والكيدية، من بقايا الثقة الدولية بمسارٍ قابلٍ للإصلاح وقادرٍ على تصويب الإعوجاجات التي أصابت أداء لبنان.

قد لا تستحق حكومة حسان دياب جردةً بإنجازاتها الـ97%، بل بمسح شامل للأضرار التي خلّفتها. وبعدما قلب مفصل 4 آب (أغسطس) الصفحة، بات لزاما تغيير المنهج السائد، وخصوصاً أن التداعيات ستظهر تباعاً، بدءاً بتدمير مرفأ بيروت الذي تمرّ عبره نسبة 70% من حركة التبادل التجاري للبنان مع العالم، فضلاً عن انهيار النظام الطبي والإستشفائي، وإنهيار بقايا نظام سوق العمل وتالياً إتساع دائرة البطالة والفقر والجوع والعوز، وطبعاً، من دون إغفال استنزاف إحتياطي مصرف لبنان ليُشارف وفق بعض التوقّعات نحو 16 مليار دولار، وذلك بقرار حكومي مباشر إنفاذاً لسياسات دعم لم تفلح في حماية السلع الحيوية نتيجة عمليات التهريب المفتوحة على خط بيروت-دمشق عبر المعابر غير الشرعية.

يُدركُ المجتمع الدولي أن صورة لبنان تبدّلت مؤقتاً. لذا، قرّر إمهاله قبل الأحكام النهائية التي يُلَوِّح بها، سواء أكانت عقوبات أم عزلة إقتصادية وسياسية. لكن، هل تكفي هذه المرونة الخارجية لإستعادة لبنان وإعادته الى حاضنته الطبيعية؟ وما ستفضي اليه حركة الوفود “غير العادية” الى بيروت والتطورات المُقلقة في الجوار القريب، لتأليف حكومة “تكنوقراط” مُتمكّنة وكفوءة ومُستقلة ومُتحرِّرة فعلياً من أي قيد سياسي؟

يترقّب لبنان اليوم وصول وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، لطي ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، على أن تلحق به وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، بعد زيارة وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس، فيما جال وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي أمس على الحدود مع لبنان بمشاركة 12 سفيراً وممثلاً ديبلوماسياً من دول أعضاء في مجلس الأمن، وطالبهم بالعمل على تطبيق نظام عمل قوات “اليونيفيل” وفرض انسحاب “حزب الله” من الجنوب. زحمةٌ تُوحي بأن التشاور الحامي ليس على شكل الحكومة الجديدة للبنان ومن سيترأسها، بل على برنامجها السياسي وليس فقط الإنقاذي لتضع لبنان في منأى عن جرعةٍ جديدة من العقوبات لإستهداف الفاسدين، بدأت واشنطن تلوّح بها وتسرّب أسماء حلفاء لـ”حزب الله” مثل الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل، وهما من الشخصيات السياسية التي تلبس بسهولة إدانات “قانون ماغنتسكي” من دون أي لبس أو نقاش!

يُحضّر المجتمع الدولي خريطة جديدة لبنان، لكنه لم يفصح عن خيوطها باستثناء مشاعر التعاطف والأسى، مُتبرّعاً بدعم إنساني للشعب وليس للحكومة، فيما أغفل الوضع الإقتصادي، ما خلا البيان الصريح لرئيسة صندوق النقد، كريستينا جورجيفا، التي أرفقت بند الإصلاحات باستعدادها لإطلاق قطار المساعدات الدولية. فهل ستتلقف السلطة بكل مكوّناتها رسائل المجتمع الدولي وتنأى بلبنان عن صراعات المنطقة؟ وهل ستكون قادرة مُجدّداً على التهرّب من تجرّع كأس الإصلاحات المرّ؟ أم تبادر وتحت وطأة ضغط الشارع الذي خسر كل ما يملك، إلى تقويم الأداء الحكومي على قاعدة إستمزاج المواقف محلياً وخارجياً، بما يكفل نجاح لبنان في العبور من مرحلة الإنهيار الشامل إلى مرحلة بدء التعافي تمهيداً لاستعادة موقع البلاد السياسي والإقتصادي؟

أولى الخطوات تبدأ بتأليف حكومة غير سياسية، أي “تكنوقراط” مستقلة فعلياً، وقادرة بموجباتها على تلقف هَول صدمة انفجار بيروت، لتُفرمل الهبوط التنازلي السريع للتوقّعات المتشائمة، بدليل أن المعهد المالي الدولي توقّع انكماش الناتج المحلي للبنان بنحو 25% إنطلاقاً من 13% كان أصدرها صندوق النقد الدولي قبل نحو شهر. وهذه توقعات قابلة للترجمة الفورية نتيجة تراكم العوامل السلبية طوال العام 2020.

المطلب بسيط وواضح: فكّ إرتباط “حزب الله” بإيران، ولا مُهَل إضافية ولا إهدار للفرص، ولا تهرّب مُجدَّداً من تنفيذ الإصلاحات التي تُلبّي متطلبات المجتمع الدولي وبما يكفل إعادة إنتظام لبنان أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً.

الحركة الديبلوماسية وضعت لبنان في قلب الإهتمام العالمي، وهي تُعيد إحياء الأمل بأن “لبنان غير متروك” وقابل للنهوض مجدداً، شرط أن يخرج من عجزه على رفض تلبية أجندات غريبة عنه… ومن الإصلاحات تبدأ ورشة النهوض!

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال: arabeconomicnews.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى