بصيص أمل في لبنان؟

بقلم بلال صعب*

والدتي تكره التكييف. لديها وحدة تبريد صغيرة في شقتها في الحمرا (منطقة في رأس بيروت)، لكنها نادراً ما تستخدمها. تدّعي أن الهواء البارد أو الساخن غير الطبيعي يجعلها مريضة ويؤذي معدتها.

طوال حياتنا، كنت أنا وإخوتي نسخر من “البارانويا” التي تشعر بها والدتي بالنسبة إلى تكييف الهواء ونحاول إقناعها بأدب أن الأمر كلّه في رأسها. إن مشاكل معدتها، التي كانت تُعاني منها لفترة طويلة، لا علاقة لها بالتكييف.

في السنوات الأخيرة، أصبحت حربها مع التحكّم بالمناخ مصدر توتّر بيننا. في كل مرة تأتي من بيروت لزيارتنا هنا في الولايات المتحدة، كان علينا إيقاف تشغيل الأنظمة المركزية في منازلنا طوال فترة إقامتها. لا يهم أن الصيف الحار والرطب في واشنطن كان لا يُطاق. كان علينا جميعاً أن نُعاني، بما في ذلك زوجاتنا وأطفالنا. لا تكييف ومكيفات مطلقاً. كانت هذه حالتها، ولم يكن الأمر قابلاً للتفاوض.

سخريتنا من أمي حول المكيّف والتكييف توقفت يوم الثلاثاء الساعة 6.07 مساءً بالتوقيت المحلي في بيروت عندما ضربت كارثة مرفأ العاصمة اللبنانية. في تلك الأمسية المشؤومة، لو قررت تشغيل وحدة التكييف وإغلاق نوافذها، فمن المحتمل أنها لم تكن لتنجو من الإنفجار الثاني الهائل. صدمة الإنفجار، كما فعلت بآلاف المنازل الأخرى في المنطقة وخارجها، كانت ستهدم شقتها. ولأنها ضعيفة، لا أعتقد أنها كانت ستنجو.

لذلك عندما اتّصَلتُ بها بعد لحظات من علمي بالحادثة، كان أول شيء حَرِصَت على إخباري به هو أن نفورَها الشديد من تكييف الهواء هو الذي أبقاها على قيد الحياة، وأنني وأخوتي يجب أن نشعر بالخجل من استهزائنا بها كل هذه السنوات. بالطبع، استخدمت هذه التجربة المؤلمة المنقذة للحياة لتبرير كل الأشياء الأخرى غير القابلة للتفسير وغير الصحية التي تقوم بها، مثل التدخين، على سبيل المثال، الذي تقول إنها لن تتركه أبداً.

يقول الناس أن هناك جانباً مضيئاً في كل مأساة. لقد وجدت والدتي جانبها المضيء في التحقق من شرور تكييف الهواء. ولكن ماذا عن الآخرين في البلاد الذين حالفهم الحظ أيضاً للنجاة من الموت؟ هل يمكن أن يخرج أيّ خير لهم من هذه الكارثة الأخيرة؟ أنا لست متفائلاً جداً.

كارثة كان يُمكن تجنّبها

ليس عدد القتلى الكبير والضرر الهائل فقط اللذان يدعوان إلى التشاؤم في اليوم التالي، وإنما حقيقة أن هذه الكارثة كان من الممكن تجنّبها تماماً، وأولئك الذين تسبّبوا بها – الطبقة الحاكمة في البلاد – ما زالوا في السلطة. بغض النظر عمّن تسبّب في الحريق الأوّلي الذي تسبّب في الإنفجار الثاني الهائل، فلا يجب أن يصرف هذا الأمر الإنتباه عن حقيقة أن 2,750 طناً من نترات الأمونيوم القاتلة كان لا ينبغي أن تكون موجودة هناك في المقام الأول.

تُشير التقارير الأولية إلى أنه لم تكن هناك لعبة شريرة أو عمل عدواني من قبل إسرائيل أو غير ذلك. وبالفعل، تشير جميع الأدلة التي تم جمعها حتى الآن إلى عمل إهمال إجرامي من قبل السلطات اللبنانية ذي أبعاد كارثية. لست سنوات – ست سنوات! – لم يتمكنوا من معرفة كيفية التخلص من تلك المواد شديدة الانفجار، التي كانت موجودة في الميناء طوال هذا الوقت مثل قنبلة موقوتة.

بيروت ستنهض وترتفع من تحت الرماد من جديد كما كانت تفعل دائماً. لكن إعادة البناء الحقيقية التي يجب أن تحدث ليست مادية بطبيعتها. إنها سياسية. لن يتغير شيء حقاً في لبنان ما لم يتم الإطاحة بقادة البلاد الفاسدين وغير الأكفاء، الذين ظلوا في السلطة منذ عقود. هذا هو بالأساس ما أشار إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته لبيروت أخيراً، والذي كان لكلماته صدى قوي بين اللبنانيين، الذين هم في أمس الحاجة إلى قيادة جديدة.

يجب أن تذهب الحكومة اللبنانية الحالية. هذا مؤكد. الشيء الوحيد المُتبقّي للمناقشة هو كيف وماذا يمكن للدول التي لها مصالح خاصة في بقاء لبنان، بما فيها الولايات المتحدة، أن تفعل للمساعدة على تحقيق هذا الهدف.

كانت الإغاثة الإنسانية الدولية حاسمة في مداواة الجرحى وإيواء النازحين وإطعام الجياع. لكن مسار لبنان المُدَمِّر لا يمكن إيقافه طالما بقيت الزمرة عينها في السلطة.

المطلوب، حالما يهدأ الغبار، أساسٌ سياسي جديد، يستطيع اللبنانيون فقط إنشاءه من خلال صناديق الإقتراع. لكن لا يمكنهم فعل ذلك بمفردهم. إنهم بحاجة إلى الحماية من حكامهم، الذين جوّعوهم، وسرقوا مُدّخرات حياتهم، وسحقوا آمالهم في عيش حياة طبيعية، والآن قتلوهم بسبب جشعهم وعدم كفاءتهم.

كان نهج واشنطن تجاه الأزمة في لبنان حتى الآن هو ربط المساعدة الإقتصادية الأميركية، من خلال صندوق النقد الدولي أو غيره، بتنفيذ الإصلاحات الضرورية من قبل الحكومة اللبنانية. المنطق يبدو مُقنعاً لكنه لا ينطبق إطلاقاً على الواقع السياسي في لبنان.

إذا لم يكن الأمر واضحاً تماماً حتى الآن، إن هذه الحكومة لا تتمتع بالإستقلالية، وداعموها المحليون، بقيادة “حزب الله”، ليسوا مُهتمّين بتغييرٍ منهجي. ذلك لأن الإصلاح بالنسبة إليهم يُشبه التدمير الذاتي، ولماذا يريدون ذلك؟ كيف لم يُدرك الأميركيون هذه المعادلة البسيطة، بطريقة ما، هو أمر لم أفهمه.

في اليابان، إعتذر وزيرٌ في الحكومة علناً في العام الفائت بعد وصوله متأخراً ثلاث دقائق عن اجتماع برلماني. لقد أدّى انفجارٌ هائل إلى تدمير الواجهة البحرية لبيروت، ما أسفر عن مقتل أكثر من 200 وإصابة الآلاف وتشريد مئات الآلاف، ومع ذلك لم يستقِل مسؤول لبناني رفيع المستوى. بدلاً من ذلك، فهم يروّجون لنظريات المؤامرة، وكالعادة، يتهرّبون من المسؤولية. وتتوقع واشنطن من هؤلاء المحتالين والفاسدين إجراء الإصلاح بمفردهم؟

نهج أميركي جديد

حان الوقت لتغيير السياسة الأميركية تجاه لبنان. وبدلاً من الانتظار ومعرفة ما إذا كان قادة لبنان سيقومون بالإصلاحات، وهو عمل لن يفعلوه، يتعيّن على واشنطن أن تكون أكثر استباقية وأن تعمل مع الشركاء الدوليين، وعلى الأخص فرنسا، للضغط من أجل إجراء انتخابات وطنية مبكرة. لا يستطيع الشعب اللبناني الإنتظار حتى العام 2022 لانتخاب قادة جدد. إمنحوهم فرصة الآن لرسم مستقبلهم السياسي. وإذا انتهى بهم الأمر إلى اختيار الحكام أنفسهم، عندها ستقع المسؤولية عليهم.

لكن أعطوهم دفعة وتشجيع في هذه المعركة الخطيرة. تطبيق العقوبات على السياسيين السنّة والشيعة والمسيحيين الأساسيين الذين مكّنوا من زيادة النفوذ السياسي ل”حزب الله”، الذي يُعتبر فعلياً صاحب النفوذ الرئيس في البلاد. إجعلوهم أشخاصاً غير مرغوب بهم في واشنطن وعواصم العالم الأخرى. إذا تقلّصت مكانتهم السياسية وأنظمتهم المحسوبية نتيجة لذلك، يمكن للعديد من مؤيديهم التخلي عنهم من أجل البقاء والإنضمام إلى صفوف الحركة الإحتجاجية.

إن مثل هذا النهج الأميركي القوي يحمل مخاطر بالطبع. يمكن أن يؤدي إلى ردٍّ أكثر عدوانية من قوى الوضع الراهن وربما يؤدي إلى تفاقم الإنقسامات السياسية والدينية بين المجتمع اللبناني. لكن خطر الإستمرار في المسار الراهن بالنسبة إلى واشنطن أعلى. غالبية اللبنانيين تقول بصوت عالٍ إنه يجب على جميع قادتهم التنحي. حان وقت لكي تصغي واشنطن وتستمع.

الأهم من ذلك، في الوقت الذي تزيد الولايات المتحدة الضغط على السياسيين الفاسدين والأشرار في لبنان، يجب أن تُقدِّم أيضاً طريقة لتهدئة الأمور، لذا فإن خيار أولئك في لبنان الذين ما زالوا يدعمون أمراء الحرب الإقطاعيين واضح تماماً. يجب أن يكون المسار الذي يختارونه متروكاً لهم، ومثل أمي قد يفضلون التمسك بالحرارة، ولكن إذا قرروا أن الوقت قد حان للتغيير، فيجب على واشنطن أن تقف على أهبة الاستعداد، جنباً إلى جنب مع أصدقائها العرب والأوروبيين، لإطلاق العنان لطاقتها الإقتصادية للمساعدة على إعادة بناء المرفأ وإعادة تشغيل الإقتصاد اللبناني.

  • بلال صعب زميل كبير في معهد الشرق الأوسط في واشنطن ومدير برنامج الدفاع والأمن. الآراء الواردة في هذا المقال تخص كاتبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى