كيفَ نُنقِذُ لبنان من التَضَخُّمِ المُفرِط الذي يلوح في الأفق

بقلم ناصر سعيدي*

في حزيران (يونيو) 2020، كان مُعدّل التضخّم في لبنان 20 في المئة، على أساسٍ شهري. وبعبارة أخرى، كانت الأسعار في البلاد، في المتوسط، أكثر بنسبة 20 في المئة مما كانت عليه قبل شهر. مُقارنةً بالعام السابق، في حزيران (يونيو) 2019، فقد تضاعفت مرتين تقريباً.

إن لبنان، كما يبدو راهناً، في طريقه إلى التضخّم المُفرِط – عندما تتغير أسعار السلع والخدمات يومياً، وترتفع بأكثر من 50 في المئة في شهر واحد.

يرتبط التضخم المُفرط بشكل شائع بدولٍ مثل فنزويلا وزيمبابوي، اللتين شهدتا هذا العام معدلات تضخم سنوية بلغت 15,000 في المئة و 319 في المئة على التوالي. ويبدو أن لبنان سينضم إلى فريقهما. لقد ارتفع تضخم أسعار الغذاء فيه بنسبة 108.9 في المئة خلال النصف الأول من العام 2020.

عندما يترسّخ التضخّم المُفرط، يبدأ المُستهلكون التصرّف بطرقٍ غير مُعتادة. يتم تخزين البضائع، ما يؤدي إلى زيادة النقص. ولمّا يفقد المال قيمته في جيوب الناس، يتّجهون إلى المُقايضة للحصول على السلع.

ما الذي يُميّز البلدان ذات التضخّم المرتفع والتضخّم المُفرِط؟ لديها تسارعٌ حاد في نمو المعروض النقدي من أجل تمويل الإنفاق الزائد غير المُستدام؛ إرتفاع مستويات الدين الحكومي؛ إنعدام الإستقرار السياسي؛ قيودٌ مفروضة على المدفوعات والمعاملات الأخرى وانهيارٌ سريع في الظروف والأوضاع الإجتماعية والاقتصادية وسيادة القانون. عادة، ترتبط هذه السمات بالفساد المُتوَطّن.

لبنان يستوفي كل الشروط أعلاه. في غياب إصلاحات إقتصادية ومالية فورية، تتجه البلاد إلى التضخم المُفرِط وانهيار إضافي لعملتها.

لماذا وكيف حدث هذا؟

لبنان الآن في خضمّ انهيارٍ مُتسارع. لقد أدّت السياسات الإقتصادية غير المُستدامة، وسعر صرف الليرة المُبالغ فيه والمربوط بالدولار الأميركي، إلى عجزٍ مُستمر. ونتيجة لذلك، بلغ الدين العام في العام 2020 أكثر من 184 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي – ثالث أعلى نسبة في العالم.

كان الدافع وراء الأزمة المصرفية والمالية هو سلسلة من أخطاء السياسة التي بدأت بإغلاقٍ غير مُبرَّر للمصارف في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، على ما يبدو بسبب الإحتجاجات السياسية ضد عدم فعالية الحكومة والفساد. لم يحدث من قبل – سواء في أحلك ساعات الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، أو خلال الغزوات الإسرائيلية أو الإضطرابات السياسية الأخرى – إغلاق المصارف أو تعليق المدفوعات.

أدّى إغلاق البنوك إلى فقدانٍ فوري للثقة في النظام المصرفي بأكمله. وقد ترافق ذلك مع ضوابط غير رسمية (Capital Control) على المعاملات بالعملات الأجنبية، وترخيص الصرف الأجنبي، وتجميد الودائع وقيود الدفع الأخرى لحماية الإحتياطات المُتضائلة لمصرف لبنان المركزي. كل هذا خلق انخفاضاً حاداً في السيولة، وضغوطاً ائتمانية، وظهور نظام صرف مُتعدِّد الأسعار، ما أدى إلى مزيد من فقدان الثقة في النظام النقدي والليرة اللبنانية.

أسعار الصرف المتعددة هي شنيعة وشائنة بشكل خاص. إنها تخلق تشوّهات في الأسواق، وتُشجع على السعي إلى الريع (عندما يكسب شخص ثروة من دون إنتاج قيمة حقيقية) وتخلق فرصاً جديدة للمحسوبية والفساد. وقد زاد الطين بلّة الإغلاق بسبب وباء “كوفيد-19″، حيث كانت النتيجة انكماشاً حاداً بنسبة 20 في المئة في النشاط الإقتصادي والإستهلاك والإستثمار، وتصاعد حالات الإفلاس. ويُعاني لبنان إرتفاعاً سريعاً في البطالة (أكثر من 35 في المئة) ومعدلات فقر تتجاوز 50 في المئة من السكان.

مع انخفاض الإيرادات الحكومية، يُمَوَّل عجز الموازنة المُتزايد بشكل كبير من قبل مصرف لبنان المركزي، الأمر الذي أدى إلى تسارع التضخم. وستكون المرحلة التالية هي تعديل تكلفة المعيشة للقطاع العام، والمزيد من التمويل النقدي والتضخم: حلقة خبيثة مُفقّرة!

نشهد انفجار “مخطط بونزي” (Ponzi scheme) –عملية استثمار احتيالية تَعدُ بمعدلات عائد عالية مع القليل من المخاطر للمستثمرين– صمّمه مصرف لبنان، والذي بدأ من العام 2016 بخطة إنقاذ ضخمة للبنوك بكلفة تعادل حوالي 12.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لحماية الليرة اللبنانية المبالغ في قيمتها وتمويل الحكومة، بدأ مصرف لبنان الإقتراض بأسعار فائدة أعلى من أي وقت مضى، من خلال ما يُسمى بخطط “الهندسة المالية”. تطورت هذه الهندسات إلى دائرة اقتراضٍ إضافي لدفع الديون المُستحقّة وخدمة الديون، حتى تبخّرت الثقة واستُنفدت الإحتياطات.

بحلول العام 2020، لم يتمكن المصرف المركزي من احترام التزاماته المُتعلقة بالعملات الأجنبية، وتعثّر لبنان في سداد سندات اليورو المتوجّبة في آذار (مارس) 2020، ساعياً إلى إعادة هيكلة ديونه المحلية والأجنبية. وتجاوزت خسائر مصرف لبنان الناتجة من ذلك 50 مليار دولار، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في ذلك العام. لقد كانت خسارة تاريخية لم يسبق لها مثيل من قبل لأي بنك مركزي في العالم.

مع عدم قدرة قلب النظام المصرفي، مصرف لبنان، على سداد ودائع البنوك، جمدت المصارف المدفوعات للمودعين، وانفجر النظام المصرفي والمالي.

كجزءٍ من مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي لحلّ الوضع، أعدّت حكومة رئيس الوزراء حسان دياب خطة انتعاش مالي تشمل إصلاحات مالية ومصرفية وهيكلية. ومع ذلك، على الرغم من الأزمات العميقة والمُتعدّدة، لم تكن هناك محاولة للإصلاح المالي أو النقدي.

في الواقع، فإن حكومة دياب وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، يعمدان إلى تطبيق سياسة فرض ضريبة تضخّم و”لَيرَلة المدفوعات” غير القانونية: تحويل قسري للودائع بالعملات الأجنبية إلى ليرات لبنانية من أجل تحقيق انكماش وتخفيض تضخم داخلي.

والهدف هو فرض “حلّ محلي” واستبعاد برنامج صندوق النقد الدولي والإصلاحات المرتبطة به. إن ضريبة التضخّم و”اللّيرَلة” تُقلّلان الإيرادات الحقيقية والثروة المالية. إن الإنخفاض الحاد في الدخل الحقيقي والهبوط الحاد في قيمة الليرة يؤديان إلى انكماش كبير في الواردات، الأمر الذي يُقلل من عجز الحساب الجاري لحماية الإحتياطات الدولية المُتبقّية. يجري التضحية بلبنان من أجل سعر صرفٍ فاشل وسياسات نقدية وحكومية غير كفوءة.

ما هي الإجراءات السياسية التي يُمكن تنفيذها لإنقاذ لبنان؟ يتطلّب ترويض التضخم وانهيار سعر الصرف وجود ركيزة مُستدامة وذات مصداقية لسياسة الإقتصاد الكلي للحدّ من حالة عدم اليقين الشديدة في السياسة.

في ما يلي أربعة تدابير من شأنها أن تُساعد:

أولاً، يجب إصدار “قانون ضوابط رأس المال” (Capital Control Act) على الفور، واستبدال الضوابط غير الرسمية المعمول بها منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019 بضوابط أكثر شفافية وفعالية لوقف الهروب المستمر لرأس المال والمساعدة على استقرار سعر الصرف. وهذا من شأنه استعادة قدر ضئيل من الثقة في النظم النقدية وسيادة القانون، وكذلك تدفق رأس المال والتحويلات.

ثانياً، الإصلاح المالي. لقد حان الوقت لانتهاز الفرصة والقضاء على الإسراف في الإنفاق العام. البداية تكون بإصلاح قطاع الطاقة ورفع أسعار السلع والخدمات المدعومة، مثل الوقود والكهرباء. وهذا سيُوقف أيضاً تهريب الوقود والسلع الأخرى إلى سوريا المُثقَلة بالعقوبات، والتي تستنزف احتياطات لبنان. ينبغي قطع الدعم بالتزامن مع إنشاء شبكة أمان اجتماعي ومُساعدة مُوَجَّهة.

ينبغي أن تتبع هذه الإصلاحات الفورية إجراءات أوسع تشمل تحسين تحصيل الإيرادات، وإصلاح المشتريات العامة (مصدر رئيس للفساد)، وإنشاء “صندوق ثروة وطني” لدمج وإصلاح الأصول التجارية للدولة، وتقليل الحجم المتضخم للقطاع العام، وإصلاح مخططات التقاعد العامة وإدخال قاعدة مالية ذات مصداقية.

ثالثاً، توحيد أسعار الصرف والإنتقال إلى نظام سعر صرف مرن. لقد ساهم نظام سعر الصرف الفاشل في عجز كبير في الحساب الجاري، وأضرّ بالقطاعات المُوَجَّهة للتصدير، وأجبر البنك المركزي على الحفاظ على أسعار فائدة عالية مما أدى إلى مزاحمة القطاع الخاص. يتطلب استقرار السياسة النقدية أيضاً إعادة هيكلة مصرف لبنان ووقف تمويل العجز الحكومي وعمليات الإسراف وشبه المالية الباهظة التكاليف، مثل دعم الاستثمار العقاري.

رابعاً، تسريع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والموافقة على برنامج يضع شروطاً واسعة النطاق لإصلاح السياسات. في غياب برنامج صندوق النقد الدولي فإن المجتمع الدولي ودول مجلس التعاون الخليجي والإتحاد الأوروبي والدول الأخرى التي ساعدت لبنان في السابق لن تأتي لإنقاذه.

لبنان على حافة الهاوية. في غياب إصلاحات سياسية عميقة وفورية، فإنه يتجه إلى عقدٍ ضائع، مع هجرة جماعية واضطرابات اجتماعية وسياسية وعنف. إذا لم يتم فعل شيء، سيُصبح “لُبنازويلا”.

  • ناصر سعيدي هو وزير اقتصاد لبناني سابق والنائب الأول السابق لحاكم مصرف لبنان المركزي. يُمكن متابعته على تويتر: @Nasser_Saidi

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى