طَبعُ الليرة اللبنانية… مَن المَسؤول؟

بقلم فيوليت غزال البلعة*

بالأمس، إستقال وزير خارجية لبنان، ناصيف حتّي، مُستَسلِماً في أقل من 7 أشهر من عمر حكومة حسّان دياب، لتعذّر أداء مُهمّاته، كما برّر في بيان الإستقالة، “ولغيابِ رُؤيةٍ لإدارةِ البلاد ولغيابِ إرادةٍ فاعلة في تحقيق الإصلاح الشامل”. رفض حتّي أن يكون شاهداً على إنزلاق لبنان ليتحوّلَ “دولةً فاشلة”، مُطالباً بـ”إعادة النظر في العديد من السياسات والممارسات”.

سريعاً، وفي ساعاتٍ لم تتجاوز الست، بادرت السلطة السياسية إلى تلقّف الصدمة السلبية. عَيَّنَت ما كان جهّزته إتصالات آخر أيام عطلة الأضحى لتطويق مفاعيل أول إستقالة تردّد خبرها في الإعلام. صدر مرسومٌ بتعيين السفير السابق شربل وهبة، مُستشار رئيس الجمهورية للشؤون الديبلوماسية منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2017، وزيراً جديداً لخارجية بلدٍ مَعزولٍ عن مُحيطه القريب والبعيد، بلدٌ يفتقر إلى ديبلوماسية ناشطة تفتح له أبواب النجاة بعدما خسر مُبادلاته التجارية والإقتصادية مع شركائه العرب والأوروبيين، بلدُ إنقطعت، أو بالأحرى، قطع طوعاً قنوات تمويله أو تعاونه المالي والمصرفي مع المجتمع الدولي.

هذا في المضمون الخالي الذي لن يُبدِّل في موقع لبنان الخارجي. وفي الشكل، فقد اهتزّ كيانُ حكومة الإنقاذ مع سقوط وزير سيادي بضربةٍ قاضية تسبّبت فيها منظومة الفساد، بما ينعكس على الثقة المحلية والدولية في ظل انغماسها بالتحضير لضربةٍ ثانية مُتَوَقَّعة يوم الجمعة المقبل، موعد صدور الحكم النهائي في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفاقه… أسبوعٌ ساخن ما بين محطتين قد تتخلّله مفاصل كثيرة تَعِدُ بها جائحة “كورونا” التي أوقعت في الأمس بالممرضة زينب حيدر لتجعل منها ثاني “شهداء” الجسم الطبي، فضلاً عن سموم المَعيشة وهمومها التي لا تنفرج رُغم وعودِ المسؤولين بإيجاد حلولٍ للكهرباء المقطوعة والنفايات المفلوشة والاسعار المُتضخّمة، وأيضاً رُغم استقرار الدولار منذ نحو أسبوع في السوق السوداء عند حافة الـ8 آلاف ليرة!

في الوقت المُستقطع، لا تزال آلة التشاور الداخلي لتوحيد أرقام الخسائر المالية للبنان بعيدة من بلوغ محطتها الأخيرة، إيذاناً بإعادة فتح قنوات التفاوض مع صندوق النقد الذي بدأ عطلته السنوية، فيما تستمر حملات التشويه في تهشيم الثقة بمؤسساتٍ يُفترَض أن تُصان، لا أن تُشرَّع أبواب الحملات المُنظَّمة عليها، والتي أتاحت لمُستشارين وخبراء إنتقاد ما يجهلونه فعلاً، أو ما يتجاهلونه عمداً، متناسين أن تلك المؤسسات تبقى هي مفتاح استعادة الثقة التي تحطّمت عند أبواب المتضررين من بقاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في منصبه!

بين المخاوف التي تُثارُ عمداً، كثر الكلام أخيراً عن “استمرار مصرف لبنان في طبع العملة الوطنية، بما يفضي حتماً إلى مزيدٍ من التضخّم، وتالياً إرتفاع أسعار المواد الإستهلاكية والغذائية”. وراوحت تقديرات المُتخصصين بين 3 و5 تريليونات ليرة لبنانية، مُتناسين أن خطأ الحكومة الجسيم في اللجوء إلى “سياسة الدعم” لتطويق إرتفاع الدولار، مُتغاضيةً عن خطورة استنزاف إحتياطي المركزي الذي يُنذر بمفاعيل مُلامَسة “الخطوط الحمر”.

عادةً، تلجأ الدول إلى طبعِ النقود لإنعاش اقتصاداتها ورفعِ حجمِ إنتاجها. لكن يحدث ذلك في الدول التي تشهد نمواً إقتصادياً، حيث تُعتبَر طباعة العملة الجديدة كضخّ الحياة في شرايين الإقتصاد، إذ تؤدي إلى خفض الأسعار وتُحفّز المناخُ الإستثماري، فيزيدُ إنتاج السلع والخدمات. إلّا أن كثرة طباعة العملة تُسبّب تضخماً كبيراً إن لم تُؤدِّ إلى انهيار الإقتصاد، وخصوصاً إن تجاوَزَ حجمُ العملة المطبوعة مقياس الناتج المحلي الإجمالي للدولة وحجم الإحتياطي الأجنبي والذهب.

هل تنطبق تلك المعادلة على لبنان؟

بالطبع نعم. إلّا أن ما يتمّ إغفاله عن سابق تصوّر وتصميم، هو أن مصرف لبنان غير مسؤول عن العجز، بل الحكومة التي تستمر في توسيع فجوة العجز المالي، تقول مصادر المركزي.  فالحكومة تخلق العجز عبر الإستمرار بسياسة الإقتراض من مصرف لبنان لتسديد رواتب القطاع العام وتغطية النفقات الحكومية الأخرى. وعادة، يتمّ هذا الدفع نقداً أو بتحويلات مصرفية. لكن وبعد تدهور الثقة بالمصارف لاعتمادها قناة للدفع، يُعتمد الدفع الحكومي نقداً. لذا، من المُخزي أن يغفل “الإختصاصيون” الذين عملوا على خطة التعافي أو أولئك الذين يُنَظّرون، هذه الحقائق والوقائع.

وتؤكد مصادر المركزي أن “طبع العملة” ليس بنداً مُدرَجاً في سياساتٍ لا يُحبّذها لأنه هو مَن يُدرك مفاعيلها التضخّمية، “لكن الحكومة هي المسؤولة لأنها تستمر في اعتماد سياسات الحكومات السابقة، أي التمويل بالدين”. ولمُنتقدي سياسة رياض سلامة، تُذكّر المصادر بأن المادة 91 من قانون النقد والتسليف تَفرض على مصرف لبنان تنفيذ السياسات الحكومية. لذا، من الأجدى إصلاح جذور العيب لا النتائج، أي معالجة معضلة العجز بطريقةٍ لا يضطر بعدها مصرف لبنان إلى طبع العملة توفيراً للرواتب التي أثارت قبل نحو أسبوع مشكلة إثر تأخّرها لأيام!

وفي ما خصّ التدقيق الجنائي الذي يعتبره بعض المُحرّضين ضد مصرف لبنان وكأنه إنتصار، فهو “طوق نجاة” للحاكم وللمؤسسة التي منحت النقد الوطني ما استدعته مُوجبات الأمانة، إذ لن يكشف التدقيق، وبعد توقيع العقد بين وزارة المال وشركة “ألفاريز”، إلّا عن ديون المركزي للدولة والتي تُقدَّر بنحو 70 مليار دولار مُسجَّلة في الموازنات العامة التي خلت هذا العام من بند “الإيرادات”، بما يُوجب البحث في كيفية إنفاقها لا البحث عن مصدرها المعروف سلفا…

وبعد، هل يُبرّر للسائلين “لِمَ يستمر طبع العملة؟”. الجواب لدى حكومة فاشلة خضعت أمس لأسرع تعديل وزاري في تاريخ لبنان!

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال: arabeconomicnews.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى