الغازُ الطبيعي المُسَال: هل يُغيّر قواعدَ اللُّعبة بالنسبة إلى تُركيا؟

تسعى تركيا منذ فترة لكي تكون قوة إقليمية في مجال الطاقة، لذا قامت ببناء وحدات عدة للتغويز والتخزين، وانخرطت في مشاريع هيدروكربونية مختلفة أهمها مع روسيا في مد خط أنابيب “تورك ستريم”. كما وقعت عقداً مع حكومة فايز السراج في ليبيا لكي تحصل على حصة من بعض مخزونات البحر الأبيض المتوسط النفطية. فهل نجحت في مسعاها؟

 

الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان: علاقة معقدة

بقلم ديميتار بيشيف*

حتى وقتٍ قريب، كانت هَيمنة روسيا على أسواق الغاز الطبيعي جنوب غرب حدودها تبدو غير قابلة للتحقيق. لكن في هذه الأيام، يبدو أن هذا  الوضع صار قابلاً للتحقيق إلى حد ما. هناك تغييرات كبيرة تحدث في تركيا من دون أن يُلاحظها أحد – لقد صارت أكبر عميل لموسكو للغاز باستثناء ألمانيا.

سجّلت هيئة تنظيم سوق الطاقة في أنقرة استيراد 2.06 ملياري متر مكعب من الغاز الطبيعي المُسال في آذار (مارس) الفائت. تم تسليمها من خلال شحنات بواسطة السفن وإعادة تحويلها في محطات تقع على الساحل، وتفوّقت على واردات خط أنابيب الغاز لتصل إلى 52 في المئة من إجمالي الكميات التي تلقتها تركيا. لوضع هذا في الإعتبار، بلغت حصة الغاز الطبيعي المُسال في الواردات 29 في المئة في العام 2019. وتتوافق هذه النسبة إلى حدٍّ ما مع الإستهلاك نظراً إلى أن تركيا لديها إنتاج محلي ضئيل. بسبب إنخفاض الأسعار، تُكثّف “بوتاس” (BOTAŞ)، شركة خطوط أنابيب البترول التركية، مُشترياتها من سوناطراك الجزائرية و”قطر للغاز” و”أن أل أن جي” (NLNG) النيجيرية، وجميع الكيانات التي أبرمت معها الشركة عقود توريد طويلة الأجل. تشتري تركيا أيضاً من السوق الفورية للغاز الطبيعي المُسال، لا سيما من الشركات الأميركية. على الرغم من كل التوترات الديبلوماسية بين أنقرة وباريس، لم تكن لدى “بوتاس” مشكلة في توقيع اتفاقٍ لمدة ثلاث سنوات مع “توتال” في الشهر الماضي.

يبدو أن صعود الغاز الطبيعي المُسال هو أخبار سيئة لروسيا. تقليدياً، قدّمت “غازبروم” أكثر من نصف الغاز الداخل إلى تركيا. ومع ذلك، انخفضت حصتها من 52 في المئة (28.69 مليار متر مكعب) في 2017 إلى 47 في المئة في 2018 (23.64 مليار متر مكعب)، إلى 33 في المئة فقط (15.9 مليار متر مكعب) في 2019. بينما يتحدث الرئيسان فلاديمير بوتين وطيب أردوغان عن مشروعات طموحة للطاقة – مثل خط أنابيب “تورك ستريم” (TurkStream) الذي تم افتتاحه أخيراً – فإن الصناعات والأسر التركية تعتمدان بشكل أقل على الغاز الروسي.

إن تحوّل تركيا إلى الغاز الطبيعي المُسال أتى نتيجةً لانخفاض الأسعار بشكل قياسي والإستثمار في البنية التحتية للإستيراد والتخزين في السنوات الأخيرة. لقد تمّ تشغيل وِحدَتَي تخزين عائم وإعادة تغويز أخيراً: واحدة في “ألياغا” في إزمير (كانون الأول/ديسمبر 2016) والأخرى خارج “دورتيول” في محافظة هاتاي (شباط/فبراير 2018). والثالثة مُخَطَّطة لخليج ساروس على ساحل بحر إيجه التركي في تراقيا. وتعمل “بوتاس” أيضاً على توسيع سعة التخزين، بهدف الوصول إلى 5.4 من 1.2 مليار متر مكعب في الوقت الحاضر (أقل من 3 في المئة من الإستهلاك السنوي في العام 2019). تسمح مشاريع تطوير التخزين مثل مشروع بحيرة “طوز” في وسط الأناضول بالمرونة. وتقدمت شركة “إنكا” (ENKA)، وهي مجموعة خاصة، أخيراً بطلبٍ للحصول على تصريح لبناء وحدة إعادة تغويز وتخزين جديدة بالقرب من مدينة إزمير الساحلية. وستكون خامس منشأة لاستيراد الغاز الطبيعي المُسال في تركيا. ستتمكن أنقرة من شراء وتخزين المزيد من الغاز – سواء كانت شحنات من الغاز الطبيعي المسال بواسطة السفن أو عبر خطوط الأنابيب – في الأوقات التي تنخفض فيها الأسعار وتضخّها في الشبكة في أثناء ذروة الطلب (كما هو الحال في فصل الشتاء عندما يبدأ موسم التدفئة في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة).

إن الزيادة في الطلب على الغاز الطبيعي المُسال تتجاوز تركيا. في الجوار، كانت اليونان في حالة فورة شراء أيضاً. في الربع الأخير من العام 2019، إستوردت شركة “ديبا” (DEPA)، الشركة الوطنية اليونانية، 1.2 مليار متر مكعب – بزيادة ثلاثة أضعاف مُقارنةً بالفترة نفسها من العام 2018. بشكل عام، تلقّت اليونان 2.8 ملياري متر مكعب من الغاز الطبيعي المُسال، و2.4 ملياري متر مكعب من الغاز الروسي تم تسليمها عبر خط الأنابيب في العام 2019. في العام عينه، باعت “ديبا” شحنة صغيرة من الغاز الطبيعي المُسال إلى شركة الغاز البلغارية “بولغارغاز” (Bulgargaz)، وهي أول صفقة عبر الحدود. وتتعاون اليونان وبلغاريا أيضاً في مشروع وحدة تغويز وتخزين قبالة ميناء ألكسندروبوليس في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. في كانون الثاني (يناير)، أكّدت شركة “بولغارترانسغاز” (Bulgartransgaz)، مُشغّل الشبكة البلغارية، عزمها على شراء حصة 20 في المئة في “غاسترايد” (Gastrade)، الشركة التي تقف وراء المشروع. تمتلك “ديبا” 20 في المئة أخرى، ومن المتوقع أن تقفز “رومغاس” (Romgas) الرومانية على متن الصفقة أيضاً. الولايات المتحدة مهتمة أيضاً بالمشروع. لقد كان هذا المشروع أحد بنود جدول الأعمال خلال اجتماعات الرئيس دونالد ترامب مع رئيسي الوزراء بويكو بوريسوف (25 تشرين الثاني/نوفمبر 2019) و”كيرياكوس ميتسوتاكيس” (7 كانون الثاني/يناير 2020) في البيت الأبيض. وقد ارتفعت المشتريات اليونانية من المُورّدين الأميركيين للغاز الطبيعي المُسال في النصف الأول من العام 2020 أيضاً. بالإضافة إلى الغرب، ستكشف كرواتيا قريباً عن محطة إعادة تغويز وتخزين في جزيرة كرك في البحر الأدرياتيكي في أوائل العام المقبل بسعة 2.5 ملياري متر مكعب سنوياً. لقد انتهزت الشركات الفرصة. يتم حجز المنشأة بالكامل حتى نهاية العام 2023 ولديها عقود بقيمة 1.5 مليار متر مكعب سنوياً للفترة 2023-2027. ويحظى الغاز الطبيعي المُسال بشعبية كبيرة في جنوب شرق أوروبا.

إن الغاز الرخيص لتركيا يعني نفوذاً إضافياً في المفاوضات مع روسيا. العقود طويلة الأجل التي وقّعتها غازبروم مع “بوتاس” وأربع شركات خاصة تستورد من خلال ما يسمى بالطريق الغربي، الذي يخدمه حالياً خط أنابيب “تورك ستريم”، قابلة للتجديد في نهاية العام 2021. وعقدُ “بوتاس” البالغ 16 مليار متر مكعب سنوياً الذي يتم شحن كمياته عبر “بلو ستريم” (Blue Stream)، وهو خط أنابيب يعمل تحت البحر الأسود منذ العام 2005، ينتهي في نهاية العام 2025 أيضاً. ستحاول أنقرة من دون أدنى شك استخلاص شروط أفضل من الروس، مثل خصم على السعر أو تخفيض حصة الإستلام أو الدفع، والتي تبلغ حالياً 80 في المئة من عمليات الشراء السنوية المُتعاقَد عليها وما إلى ذلك. وقال نائب وزير الطاقة “ألبارسلان بايراكتار” (Alparslan Bayraktar ) في شباط (فبراير): “إن توفر الغاز الطبيعي المُسال الفوري المُنخفض السعر، وانخفاض الطلب على الغاز، هما إشارة إلى مُورّدي خطوط الأنابيب الحاليين بأنهم بحاجة إلى أن يكونوا مرنين”. بالإضافة إلى روسيا، تقود تركيا صفقة صعبة مع أذربيجان (عقدٌ بقيمة 6.6 مليارات متر مكعب ينتهي في نيسان/إبريل 2021) ونيجيريا (صفقة الغاز الطبيعي المُسال تنتهي في كانون الأول/ديسمبر). وسيتم تجديد عقد مدته ثلاث سنوات مع قطر في نهاية العام، ولكن من المحتمل والمتوقع أن يؤدي التحالف الديبلوماسي والأمني ​​بين أنقرة والدوحة إلى تسهيل المحادثات.

باختصار، تمضي تركيا قُدُماً في تنويع روابط وعلاقات الطاقة الخارجية وتعزيز نفوذها. يبدو أن اللعبة مع روسيا، بقدر الإمكان، تعمل لصالح أنقرة أيضاً، نظراً إلى العلاقة المُعقّدة. لكن هذا قد لا يكون كافياً لتركيا لتحقيق طموحها الطويل الأمد لتصبح قوة طاقة إقليمية. أولاً، أدّى اقتصادها الراكد إلى تراجع الطلب على واردات الهيدروكربونات. وانخفض استهلاك الغاز من 53.5 مليار متر مكعب في 2017، إلى 49.3 مليار متر مكعب في 2018، إلى 44.9 مليار متر مكعب في 2019، وهو الأدنى خلال السنوات الخمس الماضية. مع الركود الناجم عن “كوفيد-19″، لا يبدو العام 2020 واعداً أيضاً، على الرغم من التقييمات المُتفائلة للحكومة.

  • ديميتار بيشيف هو زميل غير مقيم في مبادرة حدود أوروبا في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وهو أيضاً زميل كبير في مركز أوراسيا التابع للمجلس الأطلسي، وزميل أبحاث في مركز الدراسات السلافية والأوراسية ودراسات شرق أوروبا في جامعة نورث كارولينا. الآراء المعبر عنها في هذا المقال تخصه وتُمثّله.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى