الإنقسامات الطائفية في لبنان عميقة، لكن الغالبية في البلاد تُريدُ الحياد

بقلم مايكل يونغ*

في وقت سابق من هذا الشهر (تموز/يوليو)، ألقى البطريرك الماروني في لبنان، مار بشارة بطرس الراعي، بأول عظة من سلسلة عظات وجّهَ فيها نداءً من أجل أن يصبح لبنان دولة محايدة، وأن يتم الإعتراف بهذا الحياد على الصعيد الدولي. فتح هذا النداء خطوط صدع داخل النظام الطائفي في البلاد، الأمر الذي وضع “حزب الله” والعديد من المسؤولين في الطائفة الشيعية في مأزق.

يكمن في صميم تفكير البطريرك حقيقة أن لبنان اليوم يُنظَر إليه على نطاق واسع في المنطقة وخارجها على أنه صار تحت سيطرة وهيمنة إيران و”حزب الله”. ولهذا السبب، لم تتدخل أي دولة عربية، بما فيها الدول الخليجية المؤيدة تاريخياً، لمساعدة لبنان على مواجهة أزمة مالية كبيرة وخطيرة وانهيارٍ مُحتَمل لاقتصاده.

مع ذلك، فإن اختزال تفكير البطريرك الراعي وتأطيره في مسألة مالية سيكون خطأ. إنه يتجاوز ذلك ليشمل قناعةً بطبيعة لبنان. قال في 14 تموز (يوليو)، أن لبنان اليوم أصبح معزولاً عن العالم أجمع. “هذه ليست هويتنا. إن هويتنا الحياد الفاعل والإيجابي والبنّاء، وليس الحياد المُحارِب”، في إشارة واضحة إلى تشدّد وعسكرة “حزب الله”.

كان البطريرك يعود إلى مبدأ مؤسّس للبنان ما بعد الإستقلال، وهو مبدأٌ مدموجٌ في الميثاق الوطني المُحَدِّد الذي اتَّفقَ وتوافق عليه في آب (أغسطس) 1943 الزعيمان الماروني والسني البارزَان في البلاد في ذلك الوقت، بشارة الخوري ورياض الصلح.

من بين الأشياء التي قرراها أن لبنان سيكون له “وجه عربي” لكنه سيكون مُستقلّاً. وبهذا فقد كانا يقصدان أن الدولة ستبقى على مسافةٍ متساوية من فرنسا، التي كانت ما زالت الدولة المُنتَدِبة، والعالم العربي. المسيحيون لن يسعوا إلى المشاركة الفرنسية أو الغربية في الشؤون اللبنانية، والمسلمون السنة يتجنّبون مخططات التوحيد والوحدة مع الدول العربية الأخرى.

لعبت فكرة لبنان عدم الميل “لا للشرق ولا للغرب” دوراً أكثر إيجابية في السنوات التي تلت الإستقلال، عندما بُنيت ثروة لبنان على كونه حلقة وصل بين الشرق والغرب. كانت البلاد مركزاً إقليمياً إستفاد مالياً وسياسياً من إمكانية الوصول الإقتصادي السهل وكونه على علاقات جيدة مع معظم الدول الإقليمية والعالمية.

لذلك، بربط الوضع الإقتصادي الكارثي الذي يتخبّط به لبنان اليوم بتخلّيه عن انفتاحه على جميع الأطراف، كان البطريرك الراعي يُشير بشكلٍ ضمني إلى “حزب الله”، الذي دفع البلاد إلى المعسكر المؤيد لإيران مع عداواته العديدة. بعد ندائه، إلتقى السياسيون المحليون والأجانب المعارضون لسيطرة إيران على لبنان بالبطريرك وأيّد الكثيرون وجهات نظره.

كانت الخطوط الفاصلة السياسية والطائفية واضحة للغاية.  لقد انتقد “حزب الله” وأعضاءٌ من رجال الدين الشيعة الداعمين له، نداءَ البطريرك. السياسيون المسيحيون المتحالفون مع “حزب الله”، مثل الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، كانوا في مأزق. في حين أنهم لم يتمكّنوا من معارضة القائد الديني لطائفتهم علناً، فقد أعلنوا تحفّظات تؤكد افتقارهم إلى التأييد والحماس لما قاله، ضد آراء العديد من المسيحيين الآخرين.

سيُركّز البعض على ما إذا كانت مبادرة البطريرك لديها أي فرصة للتنفيذ. الجواب البسيط هو لا، ليس في بلد يلعب فيه “حزب الله” دوراً سياسياً رائداً ومُهيمناً ويعتزم إبقاء لبنان داخل “محور المقاومة” الذي تقوده إيران. إلّا أن البطريرك ألقى حجراً في بركة راكدة وهادئة حتى الآن يسيطر عليها “حزب الله” في لبنان. ولم يكن هذا جديداً.

التحدّي الأول لرؤية “حزب الله” وسوريا للبنان جاء خلال سنوات رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. في ذلك الوقت، كان المثل الأعلى للحريري الجمهورية التي أعقبت الاستقلال – تلك الدولة التي ستُصبح مركز الأعمال في المنطقة، وتجذب الإستثمارات الخارجية، وتُعجب العالم العربي والغرب. وقد وقف ضد ذلك تفضيل “حزب الله” وسوريا لدولة عسكرية تُركّز على معارضة إسرائيل والولايات المتحدة.

تصادمت هاتان الرؤيتان، وفي العام 2005 عندما كان الحريري على وشك قيادة تحالفٍ سياسي في الإنتخابات التشريعية والذي كان يُمكن أن يتحدّى قبضة سوريا وهيمنتها على لبنان تم اغتياله. في أعقاب مقتله، سعى “حزب الله” إلى عكس انتفاضة 2005 التي أجبرت سوريا على الإنسحاب من البلاد، وبدأ تأكيد هيمنته على المؤسسات اللبنانية.

وقد صاحب هذا الدفع فرض الأولويات الإيرانية. تدخّل الحزب في النزاع السوري دعماً لنظام الأسد في العام 2013، رُغم أنه كان قد اتفق سابقاً مع شركائه اللبنانيين (بإشراف رئيس الجمهورية آنذاك العماد ميشال سليمان) على سياسة “النأي بالنفس” التي تمنع مثل هذا العمل.

الواقع أن أجندة “حزب الله” الرئيسة هي إبقاء لبنان في المدار الإيراني مهما كان الثمن. لكن ما فعله البطريرك الراعي هو تهشيم وهزّ الواجهة التي فرضها الحزب على الجميع، مُوضّحاً أن نموذجَ “حزب الله” هو نموذجٌ يعارضه الكثير من اللبنانيين. بينما يدّعي الحزب أنه “مقاومة وطنية”، يبدو أن الحياد تجاه النزاعات الإقليمية أكثر إغراءً للعديد من اللبنانيين.

هل هذا مهم ويعني شيئاً؟ لعدم الإنزلاق إلى حربٍ أهلية، أفضل ما يُمكن أن يفعله معارضو “حزب الله” اللبنانيون هو إعادة تأكيد التفضيلات للبلاد التي ترتكز بشكل جيد على الإجماع الوطني. يُمكن ل”حزب الله” أن يُخيف أولئك الذين يختلف معهم ولكن لا يُمكنه تغيير العقول. يرجع الفضل إلى البطريرك الراعي في أنه أظهر أن نفوذ الحزب على لبنان أكثر هشاشة مما يبدو، حتى عندما يلقى نداؤه ردّ فعل لاذعاً من المسؤولين في إسرائيل والولايات المتحدة الذين يصرّون على أن لبنان و”حزب الله” هما واحد ومُتماثلان.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، في بيروت. يُمكن متابعته على تويتر: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرَّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى