زَمَنُ الخَندَقَة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

مُغرَمٌ أنا بالجسور، مهما كان اتّساعها أو صلابتها، فهي قادرة رُغمَ كلّ شيء على حَملِكَ بين ضفّتين لا تلتقيان أبداً. قد تتّسمان بالصلادة نفسها، وربّما يحتوي طميهما على المعادن ذاتها، لكنهما تسيران دوماً في خطٍّ مُتوازٍ لا ينحني أو يتعرّج. فإذا وَقَفتَ في مُنتَصَفِ الجسر تماماً، تجد نفسك مُتعالياً على التحزّب الضيِّق والإنتماءات الغبية التي تُفقِدك اتّزان خطواتك وحياديّتك المرجوّة. ففي مركز الجسر، لا سلطان لإعلامِ سلطةٍ ولا صوت لأقلامٍ مُشتراة … أنتَ فقط بصحبة عقلك فوق أسطح البنايات تُراقب المُدن التي لا تعرف الكراهية، والبُسَطاء الذين يشقّون طريقهم في الحياة بحثاً عن حياة. هذا الأسبوع، ألقت الأقدار بين يدي قصّتين عن الجسور في زمن الخندقة، وكأن شيئاً يستحثّني على الكتابة عن خرائب المُدن الآيلة للحرب.

القصة الأولى تحكي عن رجلين درجا في بيت واحد لأبٍ طيّب وأمٍّ رؤوم، فتَعَلّما النطق واللهو والمُطاردة والصياح معاً، وتقاسما اللقمة والضحكة ومقعد الكتابة، لكنّهما تقاسما الأرض أيضاً بعد وفاة الوالدين. وانشطر بيت العائلة إلى نصفين، أحدهما في رأس الحقل والآخر في ذيله. ودبّ الخلاف بين قابيل الحقل وهابيله، فقرّر أشدّهما حمقاً أن يشق أخدوداً بين نصيبه من الأرض ونصيب أخيه، حتى لا يجمعهما ريٌّ ولا حصاد. وتشاءُ الأقدار أن يمرّ نجّارٌ ببيتِ هابيل عارِضاً خدماته، وهنا تطرأ على رأس الشاب فكرة ليردّ بها على استفزاز أخيه.

قال الشاب للنجار: “أُريدُكَ أن تبني لي سوراً بطول هذا الحقل حتى لا أرى وجه أخي، ولك ما تشاء”. وفي الصباح، خرج الشاب تاركاً النجّار وخشبه على أن يعود إليه مساءً. فلما أفلت الشمس، عاد صاحبنا، ونظر دهشاً لما صنع النجار. إذ لم يرَ سوراً يمتد بطول الحقل، وإنما رأى خشباً أنيقاً يمتد بين الحمقين ليجسرهما، وفي منتصف الجسر تماماً، كان أخوه في انتظاره فارداً كفّه وقلبه.

أما الحكاية الأخرى، فتدور أحداثها فوق جسر “أوريسند” الذي يربط بين “مالمو” و”كوبنهاغن”. يكتشف رجال دورية شرطة سويدية جثّة امرأة مشطورة نصفين عند الخصر، فينادون الحراس الدانماركيين الواقفين عند الطرف الآخر من الجسر، ويسألونهم إن كانوا رأوا القاتل أو القتيلة. ويقود التحقيق المُشترِك إلى أن الجثة ليست لامرأة واحدة، وإنما لامرأتين. أما النصف الأعلى من الجسد فيعود لامرأة سويدية تعمل بالسياسة، وأما الآخر، فصاحبته عاهرة دانماركية. ويعمل المحقق “مارتن” الدانماركي والعميلة “ساجا” السويدية معاً لحل لغز القضية.

وذات يوم يتلقّى “دانييل فيربيه” (الصحافي الذي استُخدِمَت سيارته في تنفيذ الجريمة) إتصالاً من رجلٍ يُطلق على نفسه لقب “إرهابي الحقيقة” يُخبره فيه أنه القاتل، وأنه لم يرتكب الجريمة بغرض السرقة أو طمعاً في الشهرة، ولكنه يُريد أن يلفت الأنظار إلى جريمة اجتماعية سائدة. طبعاً، تُريدني أن أكمل قصة المسلسل، لكنني أريد أن أخيّب ظنك هنا عزيزي القارئ. يُسعدني أن أقول أنني لا أعرف النهاية ولا أحد مِمَن أعرف يعرف. فالمسلسل الذي يبدأ بجريمة فوق جسر ليس مُسلّياً أبداً، ولا يُمكن لأحدٍ أن يَتنبّأ بانعطافاته الخطيرة. فقط، يُمكنكَ أن ترفع رأسك فوق أكتاف الواقفين أمامك لتُشاهد حلقات رعبٍ لا تنقطع عند جسور توشك أن تنهار. لست كاتب سيناريو، ولا “حكواتي” يُريد أن ينتزع منك البسمة أو نظرات الشفقة أو شهقات الرعب، ولستُ أدعوك إلى “كيس فيشار” أمام شاشة عملاقة لنشاهد عقارب الساعة وهي تتراجع إلى الوراء ونحن نتبادل “القفشات”. وعدتك أن أتحدث عن الجسور هنا، فلا تحملني ما لا رغبة لي بالتحدث عنه بحق مصيرنا البائس المشترك.

في القصة الأولى، يرمز الجسر إلى انعتاق، وإن كانت الحكاية طوباوية أكثر مما يحتمل عالمنا الشرس. لك أن تتخيّل تكلفة سورٍ يمتدُّ بطولِ وطن، وسعر جسر لا يتجاوز مترين من الأمل. ولك أن تُقارن كآبة الجدران برحابة الجسور، وأن تُوازن تكلفة جسر تبنيه الصين ويمر بثلاثة قارات بسعر معركة محدودة الأهداف لحاملة طائرات أميركية تهدم الصوامع والبيع والصلوات فوق رؤوس أناس لا يهتمون بأسعار الدولار ولا يُراقبون ارتفاعات أسواق الذهب، لأنهم لا يملكون إلّا أحذية بلاستيكية مُمزَّقة يدوسون بها الأسلاك الشائكة التي يتفنّن السياسيون القتلة في شدّها كل مساء. الجسور أشجارٌ تمتد أفقياً لتصل ما تفتق من أوصال هذا العالم المجنون، لكن الجدران تسير في اتجاه واحد دوما ولا تصل إلى أي غاية، ورغم هذا، لا تحظى قنوات الوعي بأي نسبة مشاهدة في عالم فقد رشده أو يكاد.

أما الجسر الآخر، فيحمل شواهد النهاية عند البدء، فعلى جسر “أوريسند” تتمدد جثة واحدة لامرأتين قامتا بأداءِ دورٍ مُتشابه في مُجتمعٍ لا يُجيد التمييز بين المتشابهات، تأكل الواحدة منهما بثدييها وفرجها لتغيب عقول أجيال لو قُدّر لها أن تفكر لما وصلت الحياة إلى هذا الحد من البؤس. ترقص إحداهما بخصرها، فتطيح بعقول ثلة من الشباب، فيتمايلون كهجن سقط لجامها، وتثرثر أخرى بلسان ذرب، فتطيح بأفهام الكثيرين منهم لتُقدّمهم خشباً لجدران تزداد تقاطعاً كل صباح. وربما أراد “إرهابي الحقيقة” أن يقول أن إحداهما تُكمّل الآخرى بطريقة ما … لستُ أدري.

تبقى الجسور شاهداً على تنطع السياسيين والإعلاميين السفلة، الذين لا يعرفون معنى سقوط سقفٍ فوق رؤوس أطفالٍ رُضّع، ولا سقوط مئذنة فوق ظهور شيوخ ركع، ولا انقطاع الطريق بعابر سبيل يُريد أن يجتاز محنة الحياة من دون أن يؤذي أحداً أو أن يؤذيه أحد. أمهر السياسيين أكثرهم كذباً، وأقدرهم على استمالة رؤوس الناس بالضغط على زناد الدين تارةً والرمي بسهام الحمية أخرى. الجسور تتضاءل حولنا بشكل يُثير الهلع، والسياسيون السفلة لا يكتفون حالياً بحفر الأنفاق وبناء الجدران، ولكنهم يُريدون تدمير كل شيء في المنطقة … كل شيء، وليس لنا من الأمر شيء.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى