كيف نَجَت “أوبك” من انهيارٍ تاريخي لتحقيقِ الإستقرار بنجاح في أسواق النفط

في نيسان (إيريل) الفائت كانت الدول المصدّرة للنفط أمام انهيار تاريخي بسببب النزاع على أسعار النفط بين المملكة العربية السعودية وروسيا وجائحة كورونا. ولكن عادت بارقة الأمل إلى العالم بعد ثلاثة أشهر على ذلك.

 

الأمير عبد العزيز بن سلمان: كان حازماً وحاسماً في تطبيق إتفاق “أوبك+” الأخير

بقلم مارك فينلي وجيم كراين*

وصل النفوذ العالمي لمنظمة  البلدان المُصَدّرة للنفط “أوبك”، التي لم تكن أبداً واحدة من المؤسسات التي تحظى بالإعجاب والإحترام عالمياً، إلى أدنى مستوى لها في نيسان (إبريل) الفائت عندما تسبّب نزاعٌ بين السعودية وروسيا بحرب أسعار فيما كان الطلب العالمي على النفط ينهار بسبب جائحة “كورونا”.

وبعد ثلاثة أشهر، ظهر الكارتل مرة أخرى كنموذجٍ للتعاون عبر الوطني والتضحية الجماعية، حيث نفّذ تخفيضات تاريخية في الإنتاج في محاولة لتثبيت الأسعار. وقد لوحظ تأثير ذلك في أسواق النفط. بعد انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 20 دولاراً للبرميل في نيسان (إبريل)، حام سعر خام برنت، وهو السعر القياس الدولي، حول 42 دولاراً إلى 45 دولاراً حتى الآن هذا الشهر، على الرغم من أن الطلب لا يزال مُنخفضاً بسبب قيود السفر المُتعلّقة بالفيروس التاجي.

في المصطلحات السينمائية، يبدو الأمر كما لو أن “العصابة التي لم تستطع إطلاق النار بشكل مُستقيم ومباشر” تحوّلت إلى عصابة “أوشن 11” “Ocean’s Eleven”. ماذا حدث؟

أولاً، تراجعت المملكة العربية السعودية، القوة الأقوى والمُنَظّمة للكارتل، بحكمةٍ عن قرارها المتهور بزيادة إنتاج النفط بنسبة 20 في المئة، ما أدّى إلى وصول الإنتاج مؤقتاً إلى مستوى قياسي بلغ 12 مليون برميل يومياً. ساعد التدخل في الوقت المناسب من الرئيس دونالد ترامب في أوائل نيسان (إبريل) على دفع السعودية، بالإضافة إلى مجموعة “أوبك +” الأوسع نطاقاً التي تضم روسيا، لوقف تفاقم صدمة النفط الناجمة عن فيروس كورونا، والتي تجاوزت قدرة التخزين العالمية وأرسلت أسعار النفط الأميركي المستقبلي لفترة وجيزة إلى المنطقة السلبية.

مع تجنّب تلك الأزمة، إستعادت دول “أوبك+” مكانتها بسرعة، مُتَّفقةً على أكبر تخفيضات تعاونية مُشتركة للإنتاج لم يشهد العالم لها مثيلاً على الإطلاق. الآن، الدول الثلاث والعشرون الشريكة لا تمتثل فقط في التقيّد بحصصها الجديدة – إنها تمتثل أكثر من اللازم، حيث قامت بإزالة 10.3 ملايين برميل من النفط يومياً من السوق في حزيران (يونيو)، بدلاً من المستوى المُتفق عليه البالغ 9.7 ملايين برميل.

سبب هذا التغيير ينطوي على فرض الإنضباط القاسي والحازم من قبل المملكة العربية السعودية. بدأ صانعو السياسات الرئيسيون في الرياض، وبخاصة وزير النفط، الأمير عبد العزيز بن سلمان، مطالبة أعضاء “أوبك+” الذين يحتالون ولا يتقيّدون بالحصص (الكوتا) المُخصّصة لهم بدفع “تعويض” عن تجاوزاتهم من خلال تخفيضات إضافية في المستقبل.

في البداية، إعترض قادة البلدان المُخالِفة. في أوائل تموز (يوليو)، رفضت أنغولا ليس فقط إجراء تخفيضات تعويضية، ولكن أيضاً وقف الغش. لكنها عكست مسارها بعد بضعة أيام فقط ووافقت على الإمتثال للتخفيضات المُقرَّرة وتخفيضات إضافية في وقت لاحق من هذا العام كعقاب. وتعهّدت نيجيريا، الغشاشة المُزمنة الأخرى، بالإمتثال الكامل بعد أن تلقى رئيسها محمدو بوهاري مكالمة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في أواخر حزيران (يونيو).

حتى العراق، أكبر بلد غير ملتزم بالحصص على الإطلاق، يبدو أنه تمّ إقناعه أخيراً من خلال مجموعة مختلطة من التهديدات والحوافز السعودية، والتي تشمل الأخيرة تعيين سفير سعودي جديد في العراق والإستثمار في تطوير حقل غاز طبيعي عراقي. ومن المعروف أن العلاقات بين البلدين كانت فاترة حتى وقت قريب، بسبب علاقات العراق الوثيقة مع إيران، المنافس الإقليمي الرئيس للمملكة العربية السعودية.

وفي الوقت عينه، إنضمّت روسيا أيضاً إلى فريق التنفيذ، حيث دفعت كازاخستان المجاورة، التي كانت تنتج أيضاً فوق حصتها، للتعويض عن ذلك بالقيام بتخفيضات إضافية.

يبدو أن التوازن الهشّ، الذي يدعمه انضباط الكارتل الذي أُعيدَ تنشيطه، قد ترسّخ. ولكن لكي يستمر، سيتعيّن على “أوبك+” التغلب على بعض العوائق الحادة، وأهمها مواجهة استمرار عبء جائحة الفيروس التاجي وتأثيره في الطلب العالمي على النفط. عديدون من مناطق الولايات المتحدة، أكبر مستهلك للنفط في العالم، يعيدون النظر في خطط إعادة الفتح  بسبب عمليات الإغلاق وقيود السفر وسط ارتفاع جديد في حالات “كوفيد-19”. ينتشر الفيروس أيضاً بسرعة في الهند وعبر أميركا اللاتينية، ويُهدّد بإلغاء إحياء الطلب في الصين وأوروبا.

هذا الطلب المُنخفض يعني أنه حتى مع تعافي الأسعار، يجب أن تظل أحجام الإنتاج مُنخفضة، مما يضر بعائدات تصدير البلدان المُنتجة للنفط. هذا أمرٌ صعب بالنسبة إلى غالبية حكومات “أوبك+”، التي تعتمد على النفط لتمويل الكثير أو معظم موازناتها. ويتوقّع صندوق النقد الدولي أن تنخفض عائدات النفط لمنتجي الشرق الأوسط بنحو 270 مليار دولار في العام 2020 – أكثر من إجمالي أرباح أرامكو السعودية في 2018 – وهو مبلغ نقدي ضخم لا يُمكن تصوّره.

ونتيجة لذلك، يتوقع صندوق النقد الدولي إنكماشاً إجمالياً بنسبة 7.3 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة الشرق الأوسط. سيُعيق الإنخفاض الحاد في الإيرادات بشكل كبير جهود الحكومات لتلبية مطالب الإنفاق الجديد على الخدمات الإجتماعية والصحّية وسط الوباء.

بالطبع، لا ينتشر الألم بشكل مُوَحَّد ومُتجانس. فقد شهدت ثلاث دول أعضاء في “أوبك”، إيران وليبيا وفنزويلا، إنخفاضَ إنتاجها النفطي بما مجموعه 5 ملايين برميل يومياً في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك في الغالب إلى عوامل غير مُرتبطة بالوباء مثل العقوبات الأميركية أو الحرب الأهلية أو سوء الإدارة الداخلية. لم يتم احتساب أيّ من هذه الأمور في التخفيضات الرسمية لمنظمة “أوبك”، لأن البلدان الثلاثة ليست طرفاً في اتفاقية خفض الإنتاج.

في حين أن صناعات النفط في فنزويلا وليبيا ليست في وضع يُمكّنها من العودة والإرتداد مرة أخرى في المدى القصير، فإن إيران تعوقها فقط العقوبات الأميركية التي يُعارضها معظم العالم، بما في ذلك العديد من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. إذا خسر ترامب محاولة إعادة انتخابه في تشرين الثاني (نوفمبر)، يُمكن للرئيس جو بايدن إتخاذ خطوات لتخفيف تلك العقوبات وحتى العودة إلى الإتفاق النووي الإيراني، الذي انسحب منه ترامب من جانب واحد في العام 2018.

حتى المملكة العربية السعودية الغنية من المتوقع أن تواجه أوقاتاً صعبة في المستقبل. لقد راجع صندوق النقد الدولي بشكل كبير توقعاته للناتج المحلي الإجمالي السعودي لعام 2020، وتوقع انخفاضاً بنسبة 6.8 في المئة بدلاً من انكماش بنسبة 2.3 في المئة التي توقعها في نيسان (إبريل). وتسعى المملكة جاهدة إلى التعويض عن الخسائر النقدية، واتخذت خطوة محفوفة بالمخاطر في تموز (يوليو) وهي زيادة ضريبة القيمة المضافة بمقدار ثلاثة أضعاف من 5 في المئة إلى 15 في المئة، وهي خطوة قد تزيد من السخط المحلي.

يواجه نجاح “أوبك” في المدى القريب في إدارة السوق أيضاً حواجز وعثرات من إحياءٍ مُحتمل للنفط الصخري الأميركي. لقد انخفض إنتاج الصخر الزيتي بمقدار 2 مليوني برميل يومياً من ذروة منتصف آذار (مارس) البالغة 13.1 مليون برميل. ولكن مع بقاء أسعار خام غرب تكساس الوسيط، وهو المؤشر الرئيس للولايات المتحدة، في الغالب أعلى من 40 دولاراً للبرميل هذا الشهر، فقد تحوّل انخفاض الإنتاج إلى الإتجاه المعاكس – مؤقتاً على الأقل، مع إعادة الإنتاج المُغلَق إلى الخط. شركات الطاقة الأميركية ليست مُلزَمة بالموافقة على تخفيضات إنتاج “أوبك+”، لذلك ستحتاج المنظمة إلى الحماية من الزيادات المستقبلية في الأسعار التي ستُعيد الصخر الزيتي إلى اللعبة.

تُخطّط “أوبك+” لمواصلة توسيع سلسلتها الحالية من تخفيضات الإنتاج، التي بدأت في العام 2017، حتى العام المقبل والعام 2022. مع رؤية معظم المُحلّلين للسوق العالمية تنتقل من الفائض إلى العجز مع انخفاض الإنتاج وانتعاش الطلب، فقد أعلنت “أوبك+” في وقت سابق من هذا الشهر أنها ستلتزم بخطتها المُتّفق عليها سابقاً لتخفيف التخفيضات الأصلية التي تبلغ 9.7 ملايين برميل يومياً إلى 7.7 ملايين برميل في آب (أغسطس).

ولكن حتى ذلك الحين، مع الإحتمال المستمر لانخفاض آخر في الطلب العالمي، فقد سارعت المملكة العربية السعودية وروسيا إلى الإعلان والتحذير من أن إنتاجهما الإضافي ليس للتصدير، بل للمستهلكين المحليين إذ أن البلدين يتعاملان مع زيادة الطلب الموسمية.

بعد كل شيء، لا تُريد الدولتان أن يُفسَّر هذا الأمر بشكل غير صحيح وتأخذ الأسواق الطريق الخطأ.

  • مارك فينلي هو زميل في الطاقة والنفط العالمي في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة “رايس”. كان سابقاً كبير الإقتصاديين الأميركيين في شركة “بي بي” (BP). قاد إنتاج مراجعة (BP) الإحصائية للطاقة العالمية، وهي أطول تجميع في العالم لبيانات الطاقة العالمية الموضوعية لفترة 12 عاماً. يُمكن متابعته على تويتر: @finley_mark
  • جيم كراين هو زميل في دراسات الطاقة في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة “رايس”، ومؤلف الكتاب الأخير، “ممالك الطاقة” (Energy Kingdoms). يُمكن متابعته على تويتر: @JimKrane.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى