إنّهم “يَقتلون” آخر معاقل التعدّدية في المشرق العربي؟

بقلم مروان المعشّر*

عرفتُ لبنان للمرّة الأولى يوم دخلت الجامعة الأميركية في بيروت في العام ١٩٧٢. ونهلت هناك، للمرة الأولى أيضاً، قِيَمَ التعدّدية والتفكير الناقد. كما اكتشفت أن الحقائقَ عادةً ما تكون نسبية، وأن هناك تعدّدية فكرية يحتاج المرء إلى أن يحترمها ويتقبّلها. هذه التعدّدية مُهَدَّدة في لبنان اليوم، ما قد يفقد الشرق أحد أهم معاقلها.

في الجامعة الأميركية، درستُ التاريخ العربي للمرة الأولى ليس من الزاوية الرسمية ، بل من زاوية مُثقّفيه وأدبائه وفلاسفته من امثال الغزالي وابن خلدون وابن رشد وابراهيم اليازجي وقسطنطين زريق ووليد الخالدي ومي زيادة وغيرهم. والتقيت في لبنان بالشيعي والسني والمسيحي والدرزي والخليجي والإيراني وبأشخاص من مختلف الجنسيات والمُعتقدات، جميعهم أغنوا تجربتي وعلّموني إننا نعيش في مُجتمعٍ تعدّدي. كما تعلّمتُ في بيروت أهمية الفكر الحر في تطوير المُجتمعات وتجديدها.

وحين كفر اللبنانيون أنفسهم بالتعدّدية التي هي مصدر قوّتهم الأساسية، واندلعت الحرب الأهلية في العام ١٩٧٥، غادرتُ البلاد وأنا اشعر بأن تجربتي تم إجهاضها قبل أن تُتاحَ لي فُرصة نهل المزيد من التجارب التي ساهمت في صقل شخصيتي، وفي إيماني الراسخ بأهمية التعدّدية السياسية والثقافية والجندرية والفكرية في بناء الأفراد والأوطان. غادرتُ لبنان وأنا أشعر بأن جزءاً من تكويني لم يَكتمل، وأن سكّيناً زُرِعَت في قلبي كما في قلب التعدّدية التي أغنت المشرق لقرونٍ عدة.

غبتُ عن لبنان لستة وعشرين عاماً، لأعود إليه في العام ٢٠٠٢ وزيراً لخارجية الأردن لحضور القمة العربية التي عُقِدَت فيه. إنتَعَشت آمالي مرة أخرى بأن لبنان قد استوعب الدروس القاسية من حربٍ أهلية دامت لخمسة عشر عاماً، وبأنه أدرك أن عليه حماية تعدّدية المشرق ليس فقط بوقف الحرب واحترام مكوّناته الدينية والثقافية والفكرية، ولكن أيضاً ببناء دولة المؤسسات والقانون وضمان عدم تغوّل وهيمنة فئة على أخرى، وبمكافحة فساد القوى السياسية.

لكن هذا لم يحدث، ففي حين عادت التعدّدية الثقافية والدينية الى الواجهة، لم تُرافقها ممارسة للحوكمة الرشيدة، فقد تفشّى الفساد لدى كافة القوى، ونصّب البعض نفسه فوق الدولة التي تمّ نهبها على مدى عقود ومن كافة القوى السياسية. وبدلاً من أن تَرفع التعدّدية في هذا البلد العظيم من شأن لبنان، أوصلته القوى السياسية والطائفية التي أساءت استعمال هذه التعدّدية إلى شفير الهاوية اليوم.

أجد قلبي يدمي مرة أخرى اليوم حين أستمع الى شهاداتِ العديد من المُثقّفين والإعلاميين والأكاديميين والمسرحيين ومُختلف شرائح المجتمع الذين يتحدثون عن نيتهم الهجرة، فهذا البلد الذي صمدوا فيه وأعطوه كل حياتهم لم يعد يُشبههم، فقد تم نهبه وإفقارهم إلى حد كفرهم بماضيهم واستعدادهم للبدء من جديد خارج وطنهم.

يتعرّض لبنان اليوم الى أزمة أكبر من تلك التي أدّت الى الحرب الأهلية في العام ١٩٧٥، ففي الوقت الذي ساهمت التعدّدية فيه الى التطوير والتجديد الثقافي والى جعله منارة للفكر الحر، ومقراً لحركة مسرحية وفنية وثقافية عالية المستوى، ومركزاً للتأليف والنشر، فقد أصرّت أحزابه السياسية والطائفية على ممارسة الفساد والنهب والسرقة ما جرّد شعبه من لقمة عيشه.

ما يُقتل في لبنان اليوم مرة أخرى هو تعدّدية المشرق بكل غناها. قُتلت قبلها في العراق وفي سوريا، وتُقتل اليوم في واحد من آخر معاقلها في هذه البقعة من الأرض، كل ذلك لأننا لا نُريد أن نفهم أن تغوّل وهيمنة فئة على فئة لا يبني بلداً، وأن احتكار السلطة لا يصنع الإزدهار، وأن الجشع والفساد يأتي بالدمار على كل البلاد، بما في ذلك على مَن يُمارسهما.

كم من بلدٍ سنسمح بتدميره قبل أن نصحو؟ كم من مثالٍ حي أمامنا من التراجع والتقهقر والخروج خارج الدائرة الانسانية نحتاج قبل أن نُدرك أن الأوطان لا تُبنى من دون مؤسسات راسخة وأنظمة من الفصل و التوازن، ومن دون مُحاسَبة تسري على كل الناس؟ ومتى نفهم أن الإستقرار والإزدهار تحميه التعددية والحوكمة الرشيدة لا السلطوية؟

لكن شيئاً من هذا لا يحدث. تحسّرنا على وضع العراق من دون أن نأخذ الدروس ونعتبر، وتأسّفنا على سوريا ووضعنا اللوم على الجهات الخارجية باعتبار أننا دوماً أبرياء، وها نحن نُراقب ما يجري في لبنان من دون أن نُحرّك ساكناً. ولما لا، فالمصائب دوماً عند الجيران، والنار التي تفتك بالغابات التي حولنا لن تصلنا.

متى نُدرك أن خلاصنا يكمن باحترام تعدّديتنا واحتفائنا بها وإقرانها بالحَوكمة الرشيدة؟ عدا ذلك، لن ترحمنا الاجيال المقبلة إن بقينا على نهجٍ يصرّ على احتكار الحقيقة والسلطة والموارد، ويعتقد بإمكانية استمرار ذلك الى أبد الآبدين.

  • مروان المعشّر هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الديبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والإتصالات. يُمكن متابعته على تويتر: @MarwanMuasher

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى