في لبنان كلُّ شيءٍ سقَطَ وانهار!

فيما يُماطل السياسيون اللبنانيون في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ البلد، تنهار أربعٌ من الركائز الخمس التي دعمت لبنان، الأمر الذي يخلق مخاوف على المستقبل.

العملة اللبنانية تنهار بشكل سريع

 

بقلم الدكتورة مها يحيى*

السياسيون اللبنانيون يدفعون بلادهم نحو الهاوية. بعد ثمانية أشهر من الأزمة المُستفحلة والمُعقّدة التي تُهدد أُسُس لبنان، لم يتّخذوا بعد أيّ خطواتٍ لوقف الإنهيار. على العكس، فقد اتبعوا نهجاً خبيثاً يقوم على أن لا شيء تغيّر والعمل كالمعتاد، حيث وضعوا رهاناتهم على نظامٍ لم يعد موجوداً.

واليوم، تنهار أربع ركائز من الركائز الخمس الرئيسة التي حافظت على لبنان لفترة طويلة. أولاً، لم تعد تسوية تقاسم السلطة التي طبعت نظام الدولة منذ تأسيسها فعّالة، والتي تميّزت بعقبات مستمرة ومُوهِنة. تعتمد هذه التسوية على التوزيع العادل للمناصب الحكومية بين الطوائف المختلفة في البلاد. كما ارتكزت على شعار اللاءتين “لا للشرق ولا للغرب”، حيث لا يسعى المسيحيون إلى التدخل الغربي في شؤون لبنان، ولا يسعى المسلمون إلى التدخل العربي.

إن نظام تقاسم السلطة ليس في خطر الآن من الإنهيار الفوري. ولكن، في المرة الأخيرة التي تمّ الطعن فيه، دخل لبنان في حرب أهلية استمرت خمسة عشر عاماً بين العامين 1975 و1990. وقد توقّع اتفاق الطائف — التسوية التي أنهت هذا الصراع — إنتقال لبنان إلى دولة مدنية ينتهي فيها التمثيل الطائفي في البرلمان. في المقابل، سيتم تمثيل جميع الطوائف في مجلس شيوخ جديد، الذي ستقتصر سلطته على البت في القضايا الوطنية الرئيسة. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ تلك الأجزاء من الإتفاق على الإطلاق. اليوم، أصبح الحكم الطائفي أكثر رسوخاً في مؤسسات الدولة، ما يجعل التغيير صعباً للغاية.

ثانياً، إنتهى دور لبنان كجمهورية تجارية مبنية أساساً على العمل المصرفي والخدمات. في العام 2018، ساهمت الخدمات المالية بنسبة 8.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وقطاع السياحة (الفنادق والمطاعم بشكل رئيس) بنسبة 3.1 في المئة. واليوم، تُقدَّر الخسائر في القطاع المصرفي بنحو 83 مليار دولار. في بلد يستورد كل ما يستهلكه تقريباً، تُظهر ضوابط رأس المال (كابيتال كونترول) غير الرسمية وإلغاء خطوط الائتمان للشركات بأن النظام المصرفي لم يعد يعمل.

وبالمثل، أغلقت حوالي 800 مؤسسة ذات صلة بالسياحة بشكل دائم بين تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وكانون الثاني (يناير) 2020. وتُشغّل السياحة والخدمات ذات الصلة 25 في المئة من القوى العاملة في لبنان، لكن حوالي 25,000 شخص فقدوا وظائفهم في القطاع خلال الفترة عينها. ومن المحتمل أن يكون هذا الرقم ازداد بسبب تدابير احتواء “كوفيد-19”. إن حجم الأزمة يُهدد السلامة الأساسية للإقتصاد اللبناني. ويُقدر الخبراء الآن أن الإقتصاد سوف ينكمش بنسبة 25 في المئة بالقيمة الحقيقية على مدى العامين المقبلين.

هذا الإنهيار الإقتصادي وما تلاه من تدمير للثروات يقضي على الركيزة الثالثة للبلاد، وهي الطبقة الوسطى، التي يُعَدُّ ناسها تاريخياً بين الأكثر ثراءً وبراعة ومهنية في المنطقة. المجتمع اللبناني صار في حالة فقر بشكل سريع، بينما الأصغر سناً والألمع يبحثون عن فرص في أماكن أخرى. وبحسب ما ورد في تقارير عدة، فقَدَ واحدٌ من كل ثلاثة لبنانيين وظيفته، ومن المرجح أن يتم دفع كثيرين آخرين إلى القطاع غير الرسمي. وبدورها فقدت الليرة اللبنانية نحو 80 في المئة من قيمتها في السوق السوداء.

على سبيل المثال لا الحصر، فإن متوسط ​​الراتب السنوي للأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية في بيروت هو 94 مليون ليرة لبنانية. كان هذا المبلغ يُعادل 63,000 دولار في السنة، أو حوالي 5000 دولار في الشهر. بسعر الصرف اليوم 1 دولار = 8 آلاف ليرة لبنانية، إنخفض الراتب الشهري إلى 11 ألف دولار في السنة أو 900 دولار في الشهر.

الطبقة الوسطى تتضخم وتتزايد في صفوف الفقراء، حيث يُقدّر البنك الدولي أن حوالي 50 في المئة من اللبنانيين يعيشون الآن تحت خط الفقر، بينما يعاني الآلاف من الجوع. ولم تعد الملابس والأغذية والوقود في متناول اليد مع انخفاض القوة الشرائية على أساس سنوي إلى النصف، مع وصول التضخم إلى 90 في المئة في حزيران (يونيو) 2020. وارتفع سعر السلع الأساسية بنحو 55 في المئة في أيار (مايو) وحده. كل هذا يُمثّل انهياراً ملحمياً الذي سيكون له تأثير في الأجيال المقبلة.

الركيزة الرابعة للنظام اللبناني هي الحريات التي تتآكل أيضاً. منذ الإستقلال، إشتهر لبنان بحرية التعبير والصحافة المزدهرة. وبحلول نهاية أربعينات القرن الفائت، كانت البلاد تنشر 39 صحيفة يومية و137 دورية في ثلاث لغات. لقد كان لبنان في أوج عزّه بمثابة ملاذٍ آمن للمعارضين واللاجئين، متفاخراً بالحياة الثقافية والفكرية التي لا مثيل لها في المنطقة، وهو دورٌ استمر في لعبه حتى وقت قريب، وإن كان بأقل فعالية.

إن تراجع الحريات الأساسية وقمع حرية التعبير واضحان في الزيادة المُقلقة في الإستهداف المنهجي للناشطين والمعارضين واللاجئين على مدى السنوات القليلة الماضية، بمساعدة أجهزة أمنية أكثر عدوانية وقضاء طيّع ومطواع. في حين أن الدستور اللبناني يدعم حرية التعبير ضمن حدود القانون، فإن قانون العقوبات يُجرّم التشهير ضد المسؤولين السياسيين والدينيين. منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر)، تم اعتقال أو استدعاء 60 شخصاً على الأقل للاستجواب بسبب أشياء نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي. في الآونة الأخيرة، كانت هناك تقارير تفيد بأن المدعي العام في البلاد أمر وكالة أمنية بالتحقيق في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي المُسيئة لرئيس الجمهورية. ورداً على ذلك، تم تشكيل تحالف من 14 منظمة للدفاع عن الحريات.

وأخيراً، الركيزة الخامسة للنظام اللبناني، الجيش وقوى الأمن الداخلي، تشعر أيضاً بتأثير الأزمة الاقتصادية. مثل جميع اللبنانيين فإن العسكريين والأمنيين شهدوا رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية تختفي. وانخفض راتب قائد الجيش بالدولار إلى حوالي 750 دولاراً في الشهر، في حين انخفض راتب العقيد إلى 300 دولار والجندي إلى 150 دولاراً. قد يكون الموظفون أفضل حالاً من أولئك الذين فقدوا وظائفهم، لكنهم لم يعودوا يتمتّعون بالعديد من الفوائد التي كانوا يحصلون عليها سابقاً. في بيئة من التوترات المتزايدة، سوف ينمو الضغط الإقتصادي على القطاعين العسكري والأمني. والأكثر إثارة للقلق أن هذا يحدث مع ارتفاع معدلات الجريمة في الأشهر الأخيرة.

رداً على هذا الوضع المؤلم، كانت عملية صنع القرار على المستوى الوطني بطيئة، حيث أبدى السياسيون استخفافاً قاسياً بالبلاد. وهم يواصلون السعي إلى تحقيق مكاسب قصيرة المدى ويبحثون عن طرق للتشبّث والبقاء في السلطة، الأمر الذي يدفع لبنان إلى أزمة أعمق. من خلال مماطلتهم، يفرضون المزيد من الخسائر على المودعين، الذين لا يُمكنهم سحب دولاراتهم الأميركية من البنوك إلّا بالليرة اللبنانية، وبسعر رسمي أقل بكثير من سعر السوق السوداء.

الإتفاق على خطة إنقاذ اقتصادية أمرٌ حاسم للحصول على المساعدة المالية التي تشتد الحاجة إليها. ومع ذلك، ما زالت الحكومة والبرلمان يتشاحنان حول حجم الخسائر المالية في لبنان بينما تتفاوض الحكومة مع صندوق النقد الدولي. وبدلاً من إدخال الإصلاحات المطلوبة، استمر السياسيون في التصرّف مثلما فعلوا في الماضي. كان هذا واضحاً في تعيينات الخدمة المدنية الأخيرة التي فضّلت المُحاصصة والمحسوبية السياسية على الجدارة والكفاءة. بدون إصلاحات، لن يتحقّق الدعم الخارجي.

في هذه الأثناء، تعود الأحزاب السياسية إلى ردود أفعالها الطائفية، مُمَزِّقةً النظام السياسي اللبناني أكثر. وتُشير الإتجاهات الظاهرة على الأرض إلى زيادة الإنشقاق والإنقسام، حيث بدأت قرى وبلدات وأحياء آليات الحماية الذاتية. على خلفية “كوفيد-19″، وزيادة معدلات الجريمة، وانهيار مؤسسات الدولة، أعادت الأطراف إحياء مضارب الحماية الخاصة بها التي تُوفّر الغذاء والدواء للمكوّنات المحتاجة. يحدث هذا حتى عندما يسعى الكثير من اللبنانيين إلى دولة غير طائفية تحترم حقوقهم كمواطنين، وليس فقط كأعضاء في طائفة.

لا يُمكن معالجة مشاكل لبنان إلّا إذا وضع قادته السياسيون مصالح الدولة ومصالحهم طويلة الأجل فوق المكاسب الآنية القصيرة المدى. وهذا يعني الإتفاق على تحمّل بعض الخسائر الناجمة عن الأزمة وتشكيل حكومة قادرة على تصوّر وتنفيذ برنامج استقرار فوري وبرنامج انتعاش متوسط إلى طويل الأجل. لكن حتى الآن، لا يبدو أن هذه أولويات للقيادة السياسية في لبنان.

  • الدكتورة مها يحيى مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تُركّز أبحاثها على المواطنة والتعددية والعدالة الإجتماعية في أعقاب الإنتفاضات العربية. يُمكن متابعتها على تويتر: @mahamyahya

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى