كي لا تموت دولة لبنان الكبير

بقلم الدكتور فيليب سالم*

في 1 أيلول (ستمبر) 1920، وُلِدَت دولةُ لبنان الكبير. وُلِدَ لبنان كبيراً، فماذا حدث حتى أصبح اليوم صغيراً؟ مئة عام مضت، فبدل أن تتعاظم الدولة ويعلو شأنها، أصبحت الدولة دويلة. دويلة في دولة “حزب الله”. دويلة في محور الممانعة. هذا المحور الذي يتمدّد في الأرض من إيران الى اليمن الى العراق الى سوريا الى لبنان. هذا اللبنان الذي وُلد ليحمل مجد الشرق كله، انزلق به حكامه الى مُستنقعِ الشرق. من أجل ذلك، تفجّر الألم في صدر البطريرك الماروني، بشارة بطرس الراعي، المؤتمَن على ما تبقّى من “مجد لبنان الذي أُعطيَ له” والمؤتمَن أيضاً على حلم البطريرك الياس الحويك الذي انتزع دولة لبنان الكبير من رحم مؤتمر فرساي. وصرخ البطريرك بأعلى صوته “إرفعوا أيديكم عن لبنان”، كما طلب من “الشرعية اللبنانية” فك الحصار عن القرار اللبناني الحر.

لكن سيد بكركي يعرف جيداً ان لُب المشكلة يكمن في “الشرعية اللبنانية”، أو ما يسمى “الشرعية اللبنانية”. إن “الشرعية اللبنانية” هي التي جاءت بالحصار على القرار اللبناني الحر. سياسيون فاسدون. رجال صغار، لا ولاء لهم للبنان، جاؤوا بالقوى الإقليمية وجعلوها سلّماً يتسلقونه الى السلطة على حساب عظمة لبنان وكرامة شعبه. هم، لا غيرهم، جاؤوا بالوصايات التي توالت على هذا الوطن. ستون سنة من الحصار على القرار اللبناني الحر. ستون سنة يتنقل لبنان رهينة من زنزانة الى زنزانة. من الوصاية الفلسطينية الى الوصاية السورية الى الوصاية الإيرانية. من سيُحرر هذه الرهينة؟ هذه الرهينة لن تحررها “الشرعية اللبنانية”. سيُحرّرها الثوار.

نحنُ لا نريد ان يكون طرح البطريرك لمبدأ الحياد طرحاً مسيحياً. نُريدُه طرحاً وطنياً. طرحاً لبنانياً. لقد تعلّمنا من الماضي. من تجارب الفشل المُتكرّرة. من طاولات الحوار الى المؤتمرات الوطنية. كلها كانت ضجيجاً بالكلام. قوةٌ واحدة نريد الإلتقاء معها لإرساء عقد جديد هي قوة “حزب الله”. من هنا لا بد ان نتوجه الى “حزب الله” ونقول له: قلنا من قبل ونُعيد القول اليوم. “نحن وإياكم أهل هذه الأرض وتجمعنا محبتها”. إن النموذج الإيراني للدولة الإسلامية هو نموذجٌ مُغايرٌ للنموذج اللبناني ولن نقبل به. هذا اللبنان هو وطن الرسالة. في هذه البقعة الصغيرة من الأرض تنصهر جميع الأديان وجميع الحضارات. من حضارة الشرق الى حضارة الغرب. وعندما أُنجِزَ استقلال لبنان سنة 1943 أعلنت الدولة ميثاقها بالحياد بين الشرق والغرب. لكننا جئنا لنقول اليوم إن لبنان هذا هو الشرق وهو الغرب. هذا اللبنان هو نموذج صغير للعالم كله. إنه أيقونة الشرق. إنه رمز التعددية الحضارية في هذه المنطقة من العالم. صلاتنا ان تعودوا الى حضن لبنان. وإن عُدتم سيُعانقكم لبنان بكل محبته.

من هنا نحن نتطلع الى اليوم الذي يقف فيه الأستاذ نبيه بري بصفته رئيساً لمجلس النواب وبصفته أيضاً رئيساً لحركة “أمل”، ويُلاقي البطريرك في طرحه لمبدأ الحياد. بهذا يتحقق الوفاق الداخلي على الحياد.

ونريد هنا ان نُشدّد على أن الوفاق الداخلي وحده لن يكون كافياً لإرساء سياسة الحياد الفعلية. إن الحياد في لبنان يحتاج الى ضمانة دولية. ولتوفير هذه الضمانة يجب العودة الى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ويجب تفعيل العلاقات المميزة التي تربطنا بدولة الفاتيكان والدولة الفرنسية. لن يكون هناك حيادٌ إن لم يضمن مجلس الأمن إرساء آلية فاعلة لدعم حياد لبنان. هذه الآلية يجب ألّا تكون َمحصورة بالدعم السياسي بل يجب ان تتخطّى السياسة لدعم الأمن في لبنان. فلبنان مصلوبٌ في جغرافية الأرض بين دولة عدوّة لا تريده وتخاف من نموذجه، اسمها إسرائيل؛ ودولة لا تعترف باستقلاله، اسمها سوريا.

ونحن منذ سنوات ندعو الى الإنتقال من أُكذوبة النأي بالنفس الى الحياد. وفي المنتدى الإجتماعي الإقتصادي الدولي الذي انعقد في بكركي بين 9 و11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 في رعاية البطريرك وحضوره، قلت في افتتاح المؤتمر: “للخروج من هذا النفق المُظلم يجب إرساء مبدأ الحياد”، واقترحت يومها كما اقترحت من قبل وفي افتتاحيات متعددة في جريدة “النهار” أن نُطلق على هذا الحياد تسمية الحياد الفاعل بدل الحياد الإيجابي للتشديد على ان يكون هذا الحياد فاعلاً لمصلحة لبنان. ان وصف الحياد بالإيجابي هو وصف غير دقيق. لقد استعملت هذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية دول أوروبية وآسيوية أرادت ألّا تلتحق يومها لا بالمعسكر الأميركي ولا بمعسكر الاتحاد السوفياتي.

كان يجب أن نُطالب بهذا الحياد الفاعل من زمان. منذ نشوء الحروب اللبنانية سنة 1975 . وكم اخطأنا يوم كنا نعتقد ان خروج الجيوش الأجنبية، من جيش منظمة التحرير الفلسطينية الى الجيش السوري، سيؤمن لنا السيادة والإستقرار. وحده الحياد الفاعل بضمانة دولية، ضمانة سياسية وأمنية، يؤمن لنا هذه السيادة وهذا الاستقرار. وعلى رغم أننا تأخّرنا 45 سنة، فلا أزال أعتقد ان الظروف اليوم مؤاتية للوصول الى هذا الهدف. فأميركا وايران في حرب باردة، لكنها قاسية جداً. ساحة هذه الحرب هي لبنان، معقل “حزب الله”. وكل ما نراه من أعراضٍ لهذه الحرب من انهيار اقتصادي في لبنان، وعقوبات على ايران، وضربات عسكرية إسرائيلية متتالية لمواقع إيرانية في سوريا، كلها من أجل الضغط على إيران والمجيء بها الى طاولة المفاوضات. وليس سراً ان إدارة الرئيس ترامب تجري اليوم مفاوضات مُعمّقة في السر وفي العلن مع ايران للتوصل الى صفقة يُعلنها الرئيس ترامب في تشرين الأول (أكتوبر) لتنتشله من الهوة التي وقع فيها ولتؤمّن فوزه في الانتخابات الرئاسية. هذه الصفقة تهدف الى التأكد من أن ايران لن تتمكن، أقله في المستقبل المنظور، من تطوير قنبلة ذرية. هذه المرة لن تكون حدود الصفقة محدودة بالملف النووي، بل ستتعداه الى ملف الصواريخ الباليستية والملف الأهم التمدّد الإيراني في الشرق العربي. واذا نجحت هذه الصفقة سيكون “حزب الله” ضحيتها الأولى. ولكن بالطبع لن تُقدّم ايران هذه الهدية للرئيس ترامب ما لم تتأكد من إمكان فوزه في الإنتخابات.

ويهزأ منا اللبنانيون إذ نحن نتكلم عن الحياد وهم في فقر مدقع وذلٍّ كبير وخوف أكبر. إلّا أنهم قد لا يعرفون أنه من أهم الأسباب التي أدّت بنا الى هنا هو عدم إرساء سياسة الحياد. إن كل الوصايات التي توالت على “حكم” لبنان كانت تُشجّع وتُشرعن الفساد. كان ذلك تكتيكاً يستعمله أهل الوصاية لكي يصبح السياسي اللبناني الفاسد دمية في أيديهم.

هناك مرضٌ خبيث يفتك بنا. ان علة العلل ليست في الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بقدر ما هي في العقل السياسي اللبناني والثقافة السياسية التي أفرزت هذه الطبقة. فإن نجحت الثورة في تغيير الطبقة السياسية ولم تنجح في تغيير الثقافة السياسية، تعود الأخيرة وتفرز طبقة جديدة وتكون هذه الطبقة مُصابة بالمرض نفسه. هذه الثقافة تؤمن بان الحكم وجاهة، وليس مسؤولية. بأنّ السلطة هي لرفع شأن الحاكم لا لرفغ شأن الوطن. وبأن المواطن هو خادم للسلطة وليس العكس.

من أجل ذلك كله نعود لنقول “إن الذين أخذوه إلى حافةِ الموت لا يُمكنهم أن يعيدوه الى الحياة”. الثورة وحدها ستُعيده إلى الحياة. ومَن يُراهن على أن الثورة تحتضر فهو على خطأ كبير. فالثورة ليست فقط أولئك الذين يملأون الشوارع ويصرخون مُطالبين بحقوقهم وحقوق الوطن. فالثورة هي أيضاً الغضب الذي يتفجّر في النفوس، والألم الذي يتعمّق في قلوبنا. إنها إرادة الشعب للتغلب على الموت. إرادة الشعب لاسترجاع الكرامة. نحن نعيش اليوم في لبنان المُزوَّر. لقد اشتقنا الى لبنان الحقيقي. الى لبناننا.

وصَلاتنا، كل صلاتنا، ان يقتنع اللبنانيون، كل اللبنانيين، بنهائية لبنان، وبأن عظمة لبنان لا تكمن في انتمائه الى العالم العربي أو الى سوريا الكبرى أو الى الشرق الأوسط أو إلى دول البحر الأبيض المتوسط. ان عظمته تكمن في ذاته. في أنه لبنان.

“نسجد لآلامك أيها الوطن الصغير” وسنُبقي شمعة الأمل مُضاءة طوال الليل وننتظر “قيامتك المجيدة”.

  • الدكتور فيليب سالم، هو طبيب متخصص في أمراض السرطان وكاتب لبناني. وهو أيضاً رئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن.
  • صدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى