سيادة القانون لا سيادة السلطة السياسية

بقلم غسان سعادة*

مُؤلمٌ أن يرى اللبناني وضعَ بلده على الحال الذي هو عليه أهله، حيث باتوا يتخبّطون في بحرٍ هادرِ الأمواج تَخَبُّط المُشرِف على الغرق بحثاً عن خشبةِ خلاصٍ، وخشبةُ الخلاص في متناول يديه غير أنه مُحرَّمٌ عليه الإمساك بها.

عند مراجعة تاريخ لبنان منذ الإستقلال من منظار الدستور والقوانين، يتبيّن أن الرئيس بشارة الخوري كان أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الإستقلال، وأنه أقام مع الرئيس رياض الصلح ” الميثاق الوطني“ الذي نظّم أسس الحُكم في لبنان على قاعدة أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، وأن يكون رئيس مجلس الوزراء مُسلماً سنّياً، وأن يكون رئيس مجلس النواب مُسلماً شيعياً، وهي قاعدة لا تزال سارية ومُتّبعة حتى اليوم. حكم الرئيس بشارة الخوري حتى العام ١٩٥٢ حين أُجبِرَ على الإستقالة بعدما قامت تظاهرات شعبية ضده مُتَّهمةً اياه بالفساد.

في حقبة حكم الرئيس بشارة الخوري تصاعدت الضغوطات الإستعمارية على المنطقة بما فيها لبنان. ففي ٢٥ أيار (مايو)١٩٥٠ صدر البيان الثلاثي الأميركي – البريطاني – الفرنسي الذي أكّد على اتفاق الدول الثلاث للتدخل المشترك في الشرق الأوسط بحجة المحافظة على الأوضاع، وتأمين الإستقرار، وتزويد الدول العربية بالسلاح شرط عدم إستعماله ضد بعضها البعض، أو ضد إسرائيل.

تبع هذا البيان ظهور ”الدفاع المشترك“ الذي كان المطلوب من الدول العربية الإنضمام اليه.

رفض الشيخ بشارة الإنضمام، وبقي يرفض ربط لبنان بأحلافٍ أجنبية لأنها تُعارض روح الميثاق الوطني العُرفي، والدستور المكتوب اللذان يُشكلان معاً عماد وفاق اللبنانيين.

قال صبري حماده، أول رئيس مجلس نواب لبناني بعد الإستقلال، في هذا الصدد: “الشهادةُ لله وقد أصبح الشيخ بشارة في ذمته تعالى، إنه أبدى صموداً عجيباً، وترفّعاً غريباً بوجه الإغراء والإغواء. ولم تَلن شوكةُ مُعارضته ربط لبنان بمعاهدةٍ كمعاهدة الدفاع المشترك مثلاً، وأيّ من الإرتباطات الاخرى حتى بعد ان تحول الإغراء الى تهديد“.

إستقال الرئيس بشارة الخوري ولم يُمَسّ الميثاق أو الدستور، وحافظ على وحدة الوطن واستقلاله وقوانينه ودستوره وسيادته، رُغم تورّط عهده بالفساد.

بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري إنتُخبَ كميل شمعون رئيساً للجمهورية اللبنانية. كان الرئيس شمعون على قدرٍ كبيرٍ من الحزم داخلياً، واتّبع سياسة خارجية مُعتدِلة مُستوحاة من ميثاق ١٩٤٣، أي مُنفتحة على سوريا، التي كان يتعاقب على حكمها عسكريون ميّالون الى الغرب، أو حزب الشعب المنفتح على العراق.

إلّا أن العواصف أبت إلّا أن تهب في وجهه. ففي ٢٦ تموز (يوليو) ١٩٥٦ أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس والذي أعقبه عدوان ثلاثي بريطاني – فرنسي – إسرائيلي على مصر. قبل ذلك كان الرئيس شمعون شعر أن الاحداث تتطور بسرعة، فكلّف الرئيس رشيد كرامي تشكيل حكومة في العام ١٩٥٥، والتي استمرت خمسة اشهر في جوٍّ من التصريحات المتكررة عن أحلاف ثلاثية بين مصر وسوريا ولبنان، وعن ميثاق لبناني-سوري، وعن اتفاق عسكري وغير ذلك، إلّا أن شيئاً من ذلك لم يتحقّق.

في خريف العام ١٩٥٦ دعا الرئيس شمعون الى مؤتمر قمة عربية في بيروت، والتي انعقدت في ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٥٦، وحضرها ملوك ورؤساء الدول العربية للبحث فيما يجب تقديمه الى مصر من مساعدات. غاب الرئيس جمال عبد الناصر عن المؤتمر، ولكن القمة اتخذت مقررات تُندّد بالعدوان الثلاثي على مصر وتدعمها كلياً. هنا برزت بوجه شمعون مسألة طلب مقاطعة فرنسا وبريطانيا، وكانت غالبية الدول المجتمعة مرتبطة بمواثيق تحول دون مقاطعة المملكة المتحدة. وافق المؤتمرون على اجتهاد كميل شمعون بضرورة الإبقاء على العلاقات، لأن ذلك يساعد العرب على تحرير الاراضي المصرية من الإحتلال. أصرّ كل من الرئيس عبدالله اليافي ووزير الدولة صائب سلام على قطع علاقة لبنان مع فرنسا وبريطانيا على الرغم من اعتراض المؤتمرين. إثر ذلك طلب الرئيس شمعون منهما ان يستقيلا، ومن ثم اصدر مرسوماً بتكليف الرئيس سامي الصلح تشكيل حكومة جديدة.

ويروي باسم الجسر عن ذلك: “أدّت استقالة ممثلي السنّة من الحكم إلى تفجير الأزمة بين بيروت والقاهرة. وكانت تلك اول ضربة يتلقاها الميثاق الوطني من الضربات التي ستتوالى عليه لتصديعه في العام ١٩٥٨“. رُغم الأحداث التي جرت في العام ١٩٥٨، بقي الرئيس شمعون صامداً في في قصر القنطاري الرئاسي حتى اليوم الأخير من ولايته، وبقي مُحافظآ على السيادة اللبنانية والميثاق والدستور والسيادة والكيان، ولم يربط لبنان بأحلافٍ أجنبية.

إنتُخب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية خلفاً لكميل شمعون في سنة ١٩٥٨ كرجلٍ توافقي بشعار ”لا غالب ولا مغلوب“. قام بإصلاحات إدارية عدة وتميز عهده بالعمل على صيانة الدولة واحترام القانون وحياد رئاسة الجمهورية. وقد عُرِفَ عنه ما كان يردده ” شو بيقول الكتاب“، والكتاب المقصود هو الدستور.تشبث بالإستقلال والسيادة. وعندما اجتمع مع الرذيس جمال عبد الناصر كان ذلك في خيمة على الحدود اللبنانية-السورية ليُعيد الهدوء الى لبنان . حافظ على الميثاق الوطني، والوحدة الوطنية وبقي هو ايضا محافظآ على السيادة اللبنانية والدستور والكيان، ولم يربط لبنان بأحلافٍ أجنبية.

إنتُخبَ شارل حلو رئيساً للجمهورية خلفاً لفؤاد شهاب في سنة ١٩٦٤، وكان متميِّزاً بهدوئه ووطنيته وتمسّكه بالتعايش والحوار،  وبحرصه على الوفاق مع المحيط  لتأمين عدم حصول أي صراع على الاراضي اللبنانية. غير أن عهده تميّز بالضعف. ففي عهده في العام ١٩٦٥ بدأ إنطلاق العمل الفلسطيتي من لبنان، الأمر الذي أدّى الى بدء تسليح المخيمات الفلسطينية، حيث تفاقم بعد حرب ١٩٦٧ التي كانت  نتائجها كارثية على لبنان، إذ أنه في العام ١٩٦٩، وفي ظل أزمة حكومية مستعصية، مع إعتكاف الرئيس رشيد كرامي وضغط سوري ومصري، أُرسِلَ قائد الجيش آنذاك إميل بستاني الى القاهرة لإجراء محادثات مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، والتي كان من المفترض ان يشاركه فيها الرئيس رشيد كرامي، الذي آثر ان يستمر بإعتكافه ولم يحضر للمشاركة في المفاوضات.  وقد أدت المفتوضات إلى ”إتفاق القاهرة ” الذي وقع في ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٦٩، والذي كرّس التنازل عن السيادة اللبنانية لمصلحة الكفاح المسلح الفلسطيني، الأمر الذي حدا بعبد الناصر لأن يعتبر أن لبنان أعطى الفلسطينيين أكثر مما يجب. بقي ”إتفاق القاهرة“ اللا دستوري سرياً، ولم يتم إطلاع مجلس النواب عليه. ومع ذلك لم تحترمه المنظمات الفلسطينية.

قانوناً شكّل “إتفاق القاهرة” أول خرقٍ فاضح تقوم به السلطة السياسية للدستور من طريق إنتقاصها من سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها خلافاً لنص المادة (١) المُعدَّلة بالقانون الدستوري الصادر في ٩/١١/١٩٤٣ التي اوردت أن “لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة”.

كان لخرق السلطة السياسية للدستور في العام ١٩٦٩ نتائج مدمرة على الدولة اللبنانية داخلياً وخارجياً. على الصعيد الداخلي كان له اثره في حياة اللبنانيين، إذ أنتجَ عدم استقرارٍ سياسي وإجتماعي، ونتج عنه حرباً أهلية راح ضحيتها عشرات الآلاف من اللبنانيين. وخارجياً إعتبرته إسرائيل إلغاءً لاتفاقية الهدنة المُوقَّعة مع لبنان في العام ١٩٤٩. ومن ثم تسبب بالإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام ١٩٨٢. إن تفاعلات هذا الإتفاق ما زالت قائمة حتى اليوم، رُغم ان البرلمان اللبناني وافق بالأغلبية على قانون إلغاء الإتفاق في ٢١ أيار (مايو) ١٩٨٧، وأصدر الرئيس أمين الجميل القانون رسميا في حزيران (يونيو) ١٩٨٧.

ما كان ذلك الإتفاق ليصبح نافذاً لو لم تكن لسيادة السلطة السياسية غلبة على سيادة القانون، إذ لو كان العكس لكانت سلطة القانون قضت بعدم دستورية الإتفاق ولكان انتهى الأمر.

يوجد تعريف لسيادة القانون في قاموس أكسفورد على النحو التالي: “هو سلطة القانون وتأثيره على المجتمع، وبخاصة عندما يُنظَر إليه على أنه قيد على السلوك الفردي والمؤسساتي. (ومن هنا) إنه المبدأ الذي بموجبه يخضع جميع اعضاء المجتمع (بما في ذلك اعضاء الحكومة) على قدم المساواة للقوانين والعمليات القانونية التي يكشف عنها علناً”. يرتبط مصطلح ”سيادة القانون” إرتباطاً وثيقاً بمُصطلح الدستورية، وكذلك الامر بمصطلح ”دولة القانون“، إذ يشير الى حالة سياسية لا الى أي قاعدة قانونية مُعيَّنة.

لقد اعترف المُفكرون القدامى بهذا المبدأ، وإن لم تكن العبارة نفسها، فعلى سبيل المثال ضمن كتب ارسطو ورد: ”من الأنسب أن يحكم القانون أكثر من أي مواطن“.

مثالٌ حديثٌ على تقييد السلطة السياسية بالقانون، ما حصل منذ وقت قريب في بريطانيا حين خالفت السلطة السياسية الدستور عندما قام رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بتعليق البرلمان لمدة خمسة اسابيع ليتمكن من تمرير خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي من دون إتفاق على آلية الخروج، ومناقشة من قبل البرلمان والتصويت عليه. تصدّت سيدة أعمال لقرار رئيس مجلس الوزراء وقامت بتقديم طعن عليه أمام المحاكم المختصة، فكان النتيجة أن حكمت المحكمة ببطلان قرار رئيس مجلس الوزراء لتعارضه مع أحكام الدستور.

عندما يُقيم اللبنانيون دولة القانون، ويرتضون مبدأ سيادة القانون بدلاً من سيادة السلطة السياسية (الطوائف والأحزاب وسواهما)،  تُصبح مخالفات السلطة السياسية للدستور والقوانين عرضةً للإبطال وللمحاسبة، وكلاهما مفقودان في ظل ما هو قائم اليوم. غير أن قيام دولة القانون لن يقتصر على إلزام السلطة بالإلتزام بالقانون، إذ أن اللبناني سيكون مُلزَماً أيضاً بحُكم القانون.

في ظل ما هو قائم اليوم من تخبّط وتوهان وانعدام الرؤية، آنَ للبنانيين أن يُدركوا أن القانون عنصرٌ رئيس من عناصر قيام الدولة ويؤدي دوراً أساسياً، فهو الناظم لحياتهم، ومصدر حقوقهم، ومُحدّد واجباتهم، وفارض العقوبات على مستحقيها من المخالفين له. وهو المساوي للجميع أمامه بحيث لا يعلو أحد عليه. وأن في القوانين يأتي الدستور في المرتبة الاولى لقوانين أية دولة، منه تنساق القوانين الاخرى ومنه تستقي صحتها، فهو يحافظ على مبدأ سيادة الدولة والقانون، ويُحدد السلطات العامة في نظام برلماني حر يكفل للإفراد حقوقهم وحرياتهم وكل ما هو متعلق بنظام الحكم. كما أن الأعمال الإدارية ليست صالحة إلّا إذا امتثلت للقوانين وهذه بدورها تفقد صحتها إذا لم تطابق الدستور.

في هذا الوقت وما يحمله من مخاطر جسام على الوطن وعلى اللبنانيين، أصبح لا بديل من إقامة دولة القانون والتمسك بالميثاق والدستور، لأن من دولة القانون وحدها يأتي الخلاص من الفساد والفوضى وعدم المحاسبة والانقاذ من الوضع المزري الذي يعيشه البنانيون اليوم والذي لهم خير دليل من تاريخهم غير البعيد على ما آلت اليه أوضاعهم عند تسلّط السلطة السياسية على وطنهم وما مارسته من تهاون بتطبيق القانون وخرق للدستور والقوانين.

  • غسان سعادة هو محام لبناني مُقيم في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى