ماذا تفعل “المُمانَعة” بالعُملات الوطنية؟

بقلم فيوليت غزال البلعة*

يحارُ البيتُ الأبيض في كيفيّة تحفيزِ أكبر إقتصادٍ في العالم وإعادته سريعاً إلى دائرة التعافي، بعدما خذلته جائحة “كورونا” لأشهر أربعة، ولا تزال تَعِدُ بإبقائه في دوّامة الركود لأشهرٍ إضافية. يدورُ في الإدارة الأميركية حالياً جَدَلٌ يَحتدِمُ حول خيارين، يدعو أوّلهما، وهو بقيادة وزير الخزانة ستيف منوتشين، إلى الإستمرار بصرف مساعدات مالية لإعانة الأُسَر الأميركية وتمديد إعانات البطالة، فيما ينادي رئيس المجلس الإقتصادي الوطني لاري كودلو، أبرز إقتصاديي الرئيس دونالد ترامب، بإعفاءٍ ضريبي على الرواتب أو إلغائها كلياً بشكلٍ مؤقت، كجزءٍ أساس من خطة تحفيز النمو الإقتصادي.

ليس بعيداً، تخوض دول الإتحاد الأوروبي نقاشات صعبة حول “حجم” خطة التعافي من آثار “كورونا”، رُغم إقرارها بضرورة الحصول على دَينٍ مُشترَك لتمويل إنعاش ما وصفته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بـ”أكبر تحدٍ إقتصادي في تاريخ الإتحاد الأوروبي”، وعدم التشكيك بأن المفوضية الأوروبية ستصدر سندات “كورونا بوند” (Corona Bonds). لم تنجح القمة الخامسة في إقرار ما يَحسمُ اقتراح المفوضية لخطة إنعاشٍ “لأزمة طارئة واستثنائية” بقيمة 750 مليار يورو، منها 500 مليار على شكل منح للدول الأكثر تضرّراً (إسبانيا وإيطاليا)، و250 ملياراً على شكل قروضٍ للدول الأعضاء. مفاوضات شاقة تدور بين ألمانيا وفرنسا الداعمتين للخطة، ودول الشمال (السويد والدانمارك والنمسا وهولندا) المُعارِضة لتقديم منحٍ إلى دولٍ واقعة تحت أعباء الديون.

من الغرب، نماذج عريقة لدولٍ تشدّ أواصر علاقاتها بمجتمعاتها. ومن الشرق، نماذج مُعاكسة تعكس التخلّف عن تأمين مستقبل واضح الأفق. لبنان دخل أخيراً، ومن دون إعلانٍ رسمي، دائرة “دول الممانعة” (إيران وسوريا) لينضمّ إلى نماذج تشهد ببرودة على تهاوي عملاتها الوطنية بشكل يعكس الإرتباط المباشر بسوق واحدة، تُهرّب الدولارات من اقتصاد مُتهالك إلى اقتصادين مُحاصرَين ومُعاقَبَين، فضلاً عمّا أضافته “كورونا” إلى الإنكماش من عوامل قاتلة للنمو والإستثمار والأعمال.

وهذا ما تفعله “الممانعة” بالعملات الوطنية:

فالريال الإيراني خسر أكثر من 400% من قيمته في هذا العام، وبات الدولار يساوي ما بين 255 ألف ريال، وفق سوق السبت الماضي، مُقابل 241 ألفاً قبل يوم واحد! الإنكماش المستمر للعام الثالث سيُخفّض الناتج المحلي بنسبة 6%، فيما يستقرّ التضخّم عند حدود 34.3%. العقوبات الأميركية على قطاع النفط، خفّضت الصادرات من 2.8 مليوني برميل يومياً إلى أقل من 400 ألف، بما حدّ من وصول طهران إلى النظام المالي العالمي.

أما الليرة السورية فخسرت 150% من قيمتها في السوق السوداء، نتيجة العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011، وزاد “قانون قيصر” من حدّة حصار اقتصاد يُعاني انعدام تدفق الإستثمار الخارجي ووقف تحويلات العمّال السوريين من لبنان (2.5 ملياري دولار سنوياً) بسبب أزمة السيولة والقيود على السحوبات والتحويل، فضلاً عن حربٍ مُستَجدّة حول “فساد مالي” بين الرئيس بشار الأسد وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف وتداعياتها على الإقتصاد. وتنسحب تلك التشنّجات على معدل التضخم الذي يتوقع إرتفاعه الى مُعدّل 160%.

وبدورها، إنهارت الليرة اللبنانية بسرعة قياسية لتخسر نحو 80% من قيمتها، وبات الفارق شاسعاً ما بين السعر الرسمي (1500 ليرة) وسعر السوق السوداء (نحو 8 آلاف ليرة)، فيما يُتَوَقَّع إرتفاع التضخم الى 180% مع نهاية العام، إرتفاعاً من 56% في أيار (مايو) الماضي، فضلاً عن دخول نحو مليون عامل قريباً في حلقة البطالة نتيجة موجات الصرف المتواصلة بعد إقفال المئات من المؤسسات التجارية والسياحية والإستشفائية، في ظل انكماشٍ سيبلغ نحو 12% في الـ2020.

وقائعٌ دراماتيكية تُنذرُ بتأزّمٍ مُتزايد إن بقيت سوق الدولار السوداء مفتوحة على أسواقٍ مُمانِعة لكل تواصلٍ مع المجتمع المالي، وإن بقيت القيادات السياسية في مواقعها وعلى مواقفها، لتردع وصول أي دعم أو إستثمارات… لبنان الذي تحوّل “دولة فاشلة” وليس “مُفلسة”، يسير في تحويل وجهة الإقتصاد من حرّ إلى مُوَجَّه، بما يجعله طارداً للأموال لا مُستَقطِباً لها.

فقد سارت حكومة حسان دياب عكس التيار التاريخي لسالفاتها، حين التحقت بقطار العزلة الإقتصادية منذ طرحت خطة تعافٍ تدميرية للقطاع المالي، لتَهدُر شهرين قبل أن تعود إلى قبول مناقشتها وتعديلها. هذا الأسبوع، تتكثّف الإجتماعات في وزارة المالية لتوحيد أرقام الخسائر. الخبر جيد من حيث الشكل، لكن العلّة في مكانٍ آخر. فالخسائر المالية وقعت، ولا خلاف إلّا على تحديدِ حجمها ومصدرها… وماذا بعد؟ هل من محاسبة أو محاولة إسترداد ما تمّ نهبه عبر منظومة فسادٍ لا تزال تُحافظ على مواقعها ومصالحها وزبائنيتها؟

منذ أسبوع، عاد مصرف لبنان ليُمسك بزمام الملف المصرفي. شكّل لجنة لإعادة هيكلة القطاع الذي خسر كلّ ما يملك. وسيصدر قريباً تعميماً لتقييم الأداء من حيث الملاءة والمؤونات المُتّخذة على التوظيفات لدى مصرف لبنان والدولة لتغطية الخسائر بفترة تتراوح من 5 الى 10 سنين. بمعنى آخر، يُبادر حاكم المصرف المركزي إلى تمكين المصارف من إعادة جدولة خسائرها بعد خسارة رساميلها وتبخّر أرباحها، وصولاً إلى مرحلة الغَربَلة التي ستفضي حتماً إلى دمج مَن سيعجز عن الإستمرار… وفي هذا المسار حرصٌ يجب أن يواكب الآليات لحماية حقوق حوالي 26 ألف موظف يعملون في القطاع.

خطة التعافي الجديدة ستُبصر النور مع نهاية الأسبوع. تمّ استدعاء “لازارد” على عجل للموافقة قبل أن تُعرَض مُجَدّداً على صندوق النقد الذي ينتظر “توحيد” الأرقام. الحلّ في تسويةٍ سياسية تأتي من الخارج، بدليل الرسائل الأميركية التي أدخلت لبنان في الخطاب اليومي لمسؤولي واشنطن. أما الباقي فهو مضيعة للوقت ما دامت الحكومة تؤمن بقدرتها على “توجيه” الإقتصاد عبر دولة “فاشلة”!

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال: arabeconomicnews.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى