الحربُ بالوكالة المُتَوَسِّعة في ليبيا قد تكون الإختبار النهائي لبقاء حلف شمال الأطلسي

يبدو أن تدخّل تركيا في الحرب الدائرة في ليبيا إلى جانب حكومة فايز السرّاج في طرابلس، ودعم مصر وفرنسا للجنرال خليفة حفتر، قد يؤديان إلى هزّة كبيرة في حلف شمال الأطلسي قد تُهدّد بقاءه. 

 

إيمانويل ماكرون ورجب طيب أردوغان: خلافٌ كبير يُهدّد ديمومة الناتو

بقلم كاندايس روندو*

مع مصر على حافة غزو ليبيا المجاورة، كما تُفيد المعلومات، وقواتٌ من تشاد قيل أنها في طريقها إلى الشمال للإنضمام إلى الجنرال خليفة حفتر في معركته للإطاحة بحكومة فايز السراج المُعترَف بها دولياً في طرابلس، فإنّ ما كان في الأصل حرباً مُعَقَّدة بالوكالة يُمكن أن تُصبح قريباً أول حرب شاملة إفريقية عابرة للقارة منذ عقود. مع ذلك، قد لا يكون هذا وحده مُهَدّدٌ وفي خطر فقط. إذا أوفى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بوعده بمساعدة حفتر، فقد يؤدي ذلك أيضاً إلى انتكاسة خطيرة لأولويتين أميركيتين وأوروبيتين رئيستين: ضمان أمن شرق المتوسط المُتقلّب، وتحقيق الإستقرار الهشّ بشكل متزايد في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

وصل تصاعد التوترات على طول الحدود الشرقية والجنوبية لليبيا أخيراً إلى ذروة جديدة بعدما أجرت مصر مناورة عسكرية ضخمة في الأسبوع الفائت في منطقتها الساحلية الغربية بالقرب من ليبيا. ثم دعا البرلمان الإنفصالي في طبرق بشرق ليبيا، الذي يدعم “الجيش الوطني الليبي” التابع لحفتر، مصر للتدخل عسكريا لدرء هجوم مدعوم من تركيا. ونظراً إلى أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا سيئة ولا تسمح لهما بتخفيف حدّة الوضع بسبب خلافاتهما المتزايدة، يبدو من المرجح بشكل متزايد أن الصراع في ليبيا يُمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى اشتباكات مباشرة بين القوات العسكرية التركية والمصرية – وهما حليفان للولايات المتحدة.

إن احتمال نشوب صراع بين عضو في حلف “الناتو”، تركيا، وحليف قديم لأميركا في الشرق الأوسط، مصر، سيّئٌ بما فيه الكفاية. في الحقبة الماضية للوحدة الحقيقية لحلف شمال الأطلسي، فإن صراعاً بين عضو في الحلف ودولة أخرى من خارجه كان من شأنه أن يؤدي سريعاً إلى تفعيل بند “الجميع واحد، وواحد هو الجميع” (all for one, one for all) في المادة 5 من الدفاع المُتبادَل. والواقع أن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 أصبحت الأساس لتدخل “الناتو” الذي استمر قرابة 20 عاماً في أفغانستان. لكن في ظل حكم إستبدادي وغير مُنتظم ومُشاكس بشكل متزايد لرجب طيب أردوغان، قد لا تحصل تركيا على أكثر من كلامٍ مُبتذَل من حلفاءٍ مُتشكّكين في مقر “الناتو” وبرلمان الاتحاد الأوروبي في بروكسل.

كما هو الحال الآن، فإن تحرّكات أردوغان العدوانية المُستمرّة ضد النقاد في الداخل قد وتّرت علاقاته مع أوروبا. وقد أدّت حملته الأخيرة إلى اعتقال وإبعاد عشرات رؤساء البلديات المُنتسبين إلى حزب الشعب الديموقراطي المُعارض بتهم الإرهاب المُلفَّقة، إلى ردّ فعلٍ سلبي من كتلة كبيرة في البرلمان الأوروبي. وفي وقت سابق من تموز (يوليو)، نشر 69 من أعضائه رسالة مفتوحة تُطالب الاتحاد الأوروبي ليس فقط بفرض عقوبات هادفة على تركيا رداً على حملة أردوغان القمعية ضد معارضته المحلية، ولكن لتدخل تركيا في سوريا والمواجهة الأخيرة التي كادت أن تقع في البحر بين القوات البحرية الفرنسية والتركية بسبب الأسلحة غير المشروعة المُتَّجهة إلى ليبيا. وبالفعل، فإن المُوَقّعين على الرسالة المفتوحة هم في الغالب من الأحزاب ذات الميول اليسارية والأقليات الخضراء، وينحدر عدد قليل منهم أيضاً من خصم تركيا التقليدي، اليونان. لكن هناك مؤشرات جدية أخرى إلى أن مغامرة تركيا الليبية تزيد من توتر علاقاتها مع كلٍّ من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

في أوائل هذا الشهر، عندما اتفقت إيطاليا وتركيا على التعاون في الضغط مرة أخرى من أجل التوصل إلى تسوية سياسية بعيدة المنال في ليبيا، أعلنت فرنسا بأنها انسحبت مؤقتاً من مهمة بحرية يقودها حلف شمال الأطلسي تُعرف باسم “عملية حارس البحر”، والتي تهدف إلى حماية البحر الأبيض المتوسط من الإرهاب والقرصنة، بعد المواجهة العنيفة في الشهر الماضي مع سفن تركية. في 10 حزيران (يونيو)، قامت سفن البحرية التركية التي كانت تُرافق سفينة شحن تنزانية تحمل أسلحة إلى ليبيا بالتحرّش ومضايقة فرقاطة تابعة للبحرية الفرنسية في دورية لحلف شمال الأطلسي، واستهدفتها بالرادار. وقد اتّهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تركيا في ما بعد “بالمسؤولية التاريخية والجنائية” في ليبيا، “لبلد يدّعي أنه عضو في الناتو”. لم يكن تحقيق الناتو اللاحق في الحادث حاسماً، وبدا أنه أدّى فقط إلى تفاقم التوترات التي نشأت بالفعل بعدما وافقت فرنسا علناً على إرسال سفن حربية لمساعدة اليونان رداً على التوتر المتصاعد بين أثينا وإسطنبول حول وضع 16 جزيرة في بحر إيجه.

تؤكد كل هذه المُماحكات والمشاكل حدود حلف “الناتو” الذي بلغ من العمر 70 عاماً. على الرغم من أن الإنقسامات الداخلية تُمزّقه منذ سنوات بسبب الفوضى التي لا تنتهي في ليبيا وأفغانستان، إلّا أن “الناتو” واجه مشاكل أسوأ بكثير منذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وضمّها في العام 2014 وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العام 2016. في حين أن استمرار “عملية حارس البحر” وانخراط “الناتو” في أفغانستان هما، من جهة، دليل قوي على متانة الحلف، فإن هناك أسباباً حقيقية للقلق من أن ليبيا قد تكون بمثابة الإختبار النهائي لصمود وبقاء “الناتو”.

وكما أشار عددٌ من المُعلّقين الأميركيين المُحافظين، فإن تزايد عدوانية تركيا وأسلوب أردوغان المُشاكِس ربما حوّلا ثاني أكبر قوة عسكرية لحلف شمال الأطلسي إلى مشكلة حقيقية لبروكسل وواشنطن. كانت العلاقات الأميركية-التركية صعبة منذ أن قررت إسطنبول شراء بطارية دفاع صاروخي روسية “أس-400” (S-400) في العام الماضي وردّ البنتاغون بطرد تركيا من اتفاقية التعاون في صناعة الطائرة المقاتلة “أف-35” (F-35). كما أدّى التوغل التركي في الأجزاء الكردية في شمال غرب سوريا إلى زيادة التوترات داخل الحلف الأطلسي. ومع ذلك، فإن التخلّي عن تركيا تماماً كحليف يُخاطر ويُهدّد بإعطاء أردوغان ذريعة للعمل بشكل أكثر عدوانية في سوريا وليبيا – ويُعطي روسيا مساراً أكثر وضوحاً لتحقيق هدفها الذي طال انتظاره المُتمثّل في تدمير “الناتو”.

إن إضعاف الحلف الأطلسي يعني عدم استقرار أكبر عبر البحر الأبيض المتوسط ​​وساحل شمال إفريقيا، وهو سيناريو يجعل من المُرجّح أن تشعر دولٌ أخرى في المنطقة بأنها مضطرة للدخول في المعركة، إما مع تركيا وضد مصر، أو العكس. وأعلنت تونس والجزائر المجاورتان حتى الآن إنهما تخططان للبقاء على الحياد في الصراع الليبي. في الواقع، ربما قد يكون القادة في كلا البلدين تشجعوا على القيام بذلك بعد أن دعا السيسي إلى وقفٍ سريع لإطلاق نار في أوائل حزيران (يونيو) بعدما إدت سلسلة من الإنتكاسات في ساحة المعركة إلى إجبار قوات حفتر على التراجع والتقهقر لفترة وجيزة. لكن مع تنامي حديث السيسي عن التصعيد في أواخر الشهر الماضي، أصبح من الواضح أن الجزائر قد ترى نقطة تحول قريبة قد تجبرها على التدخل عسكرياً.

راهناً، يبدو أن تونس، من جانبها، مُلتزمة بلعب دور سويسرا المحايدة في شمال إفريقيا، وحتى الآن تجنّبت قبول توسّلات وطلبات القيادة الأميركية في إفريقيا (أفريكوم) لتوسيع وجودها وإقامة قاعدة أميركية هناك. لكن تونس لديها احتكاكات ومشاكل داخلية خاصة بها، يُمكن أن تجذبها إلى ليبيا، بين الفصائل السياسية المتحالفة مع حزب النهضة الإسلامي الأكثر تعاطفاً مع حكومة السراج في طرابلس، ومجموعة من قوى المعارضة العلمانية في الغالب الأكثر انسجاما مع موقف حفتر.

إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا تريدان التعامل مع الوضع في ليبيا، فإن الانقسامات الداخلية داخل “الناتو” بين فرنسا وإيطاليا وتركيا واليونان تجعل الأمر صعباً. قد تعمل واشنطن وبروكسل بشكل أفضل من خلال البدء بشكل أصغر، أولاً من خلال معالجة التشقّقات السياسية في تونس التي يُمكن أن تؤدي إلى انحيازها صراحةً في ليبيا، وثانياً من خلال تقديم حوافز للجزائر للبقاء على الحياد. قد تكون مصر بعيدة المنال في الوقت الحالي من حيث النفوذ الأميركي أو الأوروبي، حيث أن فرنسا والولايات المتحدة تصطفان على الجانبين المُعاكسين للحرب بالوكالة في ليبيا. لكن المُشرّعين في كلّ من باريس وواشنطن المُهتمّين بضمان بقاء “الناتو” وازدهاره سيفعلون حسناً وجيداً في وضع المزيد من الضغط على كلٍّ من ماكرون وترامب لإيقاف اندفاعة السيسي، وبسرعة.

  • كاندايس روندو هي زميلة وأستاذة في مركز مستقبل الحرب، وهو مبادرة مشتركة بين جامعة أميركا الجديدة وجامعة ولاية أريزونا. يُمكن متابعتها على تويتر: @CandaceRondeaux
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى