إِلى “هذا اللبنان” فلْيَشْهَروا ولاءَهم (1 من 2)

بقلم هنري زغيب*

أُطلُّ أَحيانًا على بعض الصفحات الثقافية (ما تبقَّى منها في صحافتنا) أَتفقَّد أَحدَث نتاج كتَّابها، فيُفاجئُني نفرٌ منهم بكتابتهم مواضيعَ وأَبحاثًا أَدبية أَو شعرية أَو فكرية أَو نقدية مُنفصلة تمامًا لا عن واقع الوطن فقط بل عن هموم المواطنين العالقين بين الرعب والغضب، بين القلق والأَرق، بين الهموم والكُلوم، ينتظرون فجرًا يطلُّ من كلمةٍ تُرسِّخ فيهم حسَّ الانتماء، وتُبعدُهم عن الكُفر بوطن يحسبون أَنه – أَو يشعرون بأَنه – من الهشاشة ما يجعله يسقط تحت فشَل مَن يَسُوسُونه منذ عقودٍ حتى صيَّروه اليوم مركبًا يترنّح متهاويًا بين الأَنواء لا شاطئ يفتح مرساه لاستقباله.

هل هذا لبنان؟ هل هكذا صار لبنان؟

لا. أَبدًا. هذا ليس لبنان، ولن يكون. قبطانُ السفينة الفاسدُ لا يَسِمُ السفينةَ بالفساد ولا ركابَها الأَبرياء الحياديين، بل هي قياداتُها المُتكرّرة تَواليًا رحلةً بعد رحلة. وهذا ما يجب أَن تُضيْءَ عليه، تشديدًا، أَقلامُ المثقَّفين والكُتَّاب يُشعلون بالكلمة ما تُرمِّدُهُ خُطَب السياسيين وتصاريحُهم وأَقوالُهم وأَفعالُهم. وهذا ما صعقَني غيابُهُ في ما أَقرأُ من كتابات مُعظم أَهل القلم وممتشقي الكلمة.

مقالات النقد الأَدبي والتحاليل الشعرية ودراسات الشعر والشعراء حديثهم والقديم، ليس اليوم وقتها. الوقت اليوم للكلمة التي تُغيِّر، تُشعل ثورةً على الفاسدين، تُصوّب على مُسبِّبين أَوصلوا لبنان إِلى تسطيح صورته وجعْلِها مكسورةَ الخاطر على أَبواب الدول. الكلمة التي تُذكِّر اللبنانيين المتهيِّئين للسفَر بأَن وطنهم أَقوى من حاكميه، أَشدُّ من خياناتهم، أَعمقُ من قياداتهم الهوجاء. الوقت اليوم لتوعية اللبنانيين على هوية لبنان، حضارة لبنان، فرادة لبنان، رسالة لبنان، أَعلام لبنان. الوقت اليوم للإِضاءة على دور لبنان في جواره ومحيطه ومنطقته والعالم. مَن سمّاه “سويسرا الشرق” لم يكن يقصد زرقةَ سمائه ولا خُضرة أَرضه لا مناخَه، هذه موجودة أَينما كان في العالم. كان يقصد فرادته بأَبنائه العباقرة المبدعين في كل حقل، وَسَـمُوه مساحة فريدة في العالم، وجعلوه منارةً تنطلق من قاعدتها الضئيلة جغرافيًّا المتواضعة ديموغرافيًّا ليشعَّ نورُها على العالم عقلًا لبنانيًّا شدّ إِليه احترام العالم.

الكلمة! فلْيَتركوا حاليًّا تنظيرات الأَدب ومقالات النقد وتحليلات القصائد، ولْيَحملوا الكلمة المقاوِمة شاهرين إِيمانهم بلبنانية لبنان، لا الشوڤـينية المتعصبة الغوغائية بل بلبنان الإِنسان الذي يعي أَبناؤُه أَنهم أَحفاد كبارٍ زرعوا كي نحصد ونحافظ على الحصاد فلا نكون دولةً/نُسخةً في محيطها كأَية دولة في الـمَدار.

إِنَّ لبنان الذي يحترمه كلُّ مَدار وجوار هو لبنانُ الوطن بخصوصيته العظيمة لا لبنان الدولة بمواصفاتها العقيمة.

هو لبنان اللبناني أَوَّلًا قبل “إِعارة” هويته إِلى أَيِّ كيانٍ آخر.

إِلى هذا اللبنان فَلْيَشْهَر الكُتَّاب ولاءَهم ووفاءَهم وانتماءَهم قبل أَن يستيقظوا غدًا فيَجدوا أَقلامهم مكسورةً غريبة تشحدُ الانتماء باكيةً على رصيف الدول الغريبة.

(التتمَّة: المقال المقبل)

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com
  • يَصدُر هذا المقال في أَسواق العربتَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى