حرارة شرق المتوسط ترتفع مع انتقال النزاعات حول الطاقة إلى اليابسة

تحوّل الصراع على ثروات النفط والغاز في البحر المتوسط إلى مادة ملتهبة تزيد من أسباب النزاعات والخلافات على المصالح. من الصراع المائي والنفطي قديم العهد بين لبنان وإسرائيل، إلى الصراع المنفجر حديثاً بين تركيا من جانب، وكل من اليونان وجمهورية قبرص من الجانب الآخر، إذ تجاهلت أنقرة، في طريقها للتوسع السياسي للوصول إلى الشواطئ الليبية، أن شواطئ جزيرة كريت هي أراضٍ يونانية، وصولاً إلى الصراع الثالث، حديث العهد، القائم بين تركيا ومصر.

رجب طيّب أردوغان وفايزالسراج: إتفاقيتهما أثارت رفضاً دولياً

 

بقلم جيفري أرونسون*

منذ وقت ليس ببعيد، كان البحر الأبيض المتوسط يُوصَف بأنه “بحيرة حلف الناتو” – مياهٌ راكدة مُنعشة في عالم تًسيطر عليه الصراعات. بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، تمتّعت سفن الحلف، بقيادة الولايات المتحدة، بوصولٍ وإبحارٍ غير مُقيَّد وغير مُتنازَع عليه من جبل طارق إلى بيروت. وقد تركّزت مشاكل المنطقة على نزاعات قائمة على أراضٍ، ويبدو أن صراع إسرائيل المُستعصي على الحلّ مع الدول العربية هو أبرزها.

اليوم، يُنظَر إلى نزاعات إسرائيل مع لبنان وفلسطين وسوريا – وتقليصها – على أنها نزاعات تراثية وإرثية، تطغى عليها بيئة استراتيجية جديدة وغير مُستقرّة تُركّز على رؤى متنافسة على الطاقة في البحر والأمن في شرق البحر الأبيض المتوسط.

مَن كان يَتخيّل أن النزاع في القرن العشرين حول قبرص سوف يتحوّل إلى صراعٍ في القرن الحادي والعشرين حول الوصول إلى موارد الغاز تحت سطح البحر – وهي مُنافسة تُقسّم حلفاء “الناتو” وتساعد على توطيد العلاقات الوثيقة بين أعداءٍ سابقين؟

كان من المأمول في السابق أن تؤدي اكتشافات الطاقة حول قبرص إلى خلقِ منطقٍ جديد ومُقنع للتعاون وحلّ النزاع الذي قسّم الجزيرة لفترة طويلة.

لكن النفاق، والتنافس، وإنشاء تحالفاتٍ أمنية وطاقة متنافسة، هي التي تُحدد الآن مسابقة الوصول إلى هذه الموارد واستكشافها والسيطرة عليها، مما يؤثر ليس فقط في قبرص، ولكن أيضاً في إشراك شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله.

لقد حفّزت هذه المسابقة صانعي السياسة على إنشاء آليات جديدة لتأكيد وحماية الرؤى المتنافسة للمصلحة الوطنية من روما إلى أثينا، والقدس إلى القاهرة، وأنقرة إلى طرابلس.

في كانون الثاني (يناير) 2019، أنشأت مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية “منتدى غاز شرق المتوسط” ​​لتعزيز التعاون الإقليمي بشأن قضايا الغاز الطبيعي. وبحسب بيان مصري صدر في ذلك الوقت، فإن المنظمة الجديدة تهدف إلى “إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح أعضائها من خلال ضمان العرض والطلب، وتحسين تنمية الموارد، وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية”.

واعتُبر هذا الإجراء على نطاق واسع محاولةً لعزل تركيا ودعمها للجمهورية التركية لشمال قبرص، والحدّ من وصولها إلى موارد الطاقة البحرية المُتنازَع عليها.

ظهور كتل متنافسة

هذه الآراء المُتضاربة للمصلحة الوطنية تترسّخ في كتل مُتنافسة حيث تتداخل رؤى الطاقة المتنافسة والأمن البحري. من ناحية، هناك مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط، مدعوماً بعدد من التفاهمات البحرية الثنائية بين الأعضاء. ومن ناحية أخرى هناك المُذكّرة التي وقعتها تركيا و”حكومة الوفاق الوطني” في ليبيا التي يترأسها فايز السراج. تُمثّل هذه الاتفاقية قفزة استراتيجية على مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط. فهي تُنشئ مناطق اقتصادية حصرية لكلٍ من الدولتين والتي تم رفضها على نطاق واسع لأنها لا تتوافق مع القانون الدولي.

المضايقات المزعومة الأخيرة من قبل تركيا لسفينة حربية فرنسية، والتي تم نشرها قبالة الساحل الليبي كجزء من مهمة “الناتو” لمنع شحنات الأسلحة لتأجيج الحرب في الجماهيرية السابقة، تُضيف بُعداً آخر للصراعات المتصاعدة في البحر المتوسط.

كانت باريس صريحة وواضحة في لفت الإنتباه إلى ما وصفه مسؤول في وزارة الدفاع الفرنسية بأنه “مشكلة تركيا في الناتو”. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه ينظر إلى الحادث كمثال آخر على “موت دماغ الناتو”.

هذه الصراعات مُتجذّرة في الرؤى البحرية المُتناقضة، لكنها تعكس أيضاً السياسات المُتنافسة التي تتحرّك في البر.

مَن كان يتصوّر أن قرار باريس وواشنطن بالإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي في العام 2011 سيؤدي، من بين تطورات أخرى، إلى منافسة عسكرية ناشئة بين تركيا ومصر – كلاهما حليفتان مُقرّبتان للولايات المتحدة – على الجائزة غير المؤكدة المُتمثّلة في إعادة توحيد البلد المُمزَّق الغني بالنفط؟

تتميز المعركة من أجل السيطرة على مصير ليبيا الآن بعمل استراتيجي من قبل تركيا، التي تدعم “حكومة الوفاق الوطني”، لهزيمة تحالف عام يربط بين مصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وروسيا ب”الجيش الوطني الليبي” بقيادة الجنرال خليفة حفتر.

عندما شهدت تركيا آخر مرة ميزة في الحفاظ على وجود عسكري في ليبيا، كانت إسطنبول لا تزال تُدعى القسطنطينية. مصر، التي تُعارض بالفعل توطيد وتمكين حكومة ليبية مَدينة للإسلاميين، تعتبر التصعيد العسكري التركي دليلاً ملموساً على نيّة أنقرة لعزل مصر من المناطق النائية الاستراتيجية إلى الغرب (ليبيا)، والشمال (البحر الأبيض المتوسط)، والشرق (غزة). وقد أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن مصلحة أمنية وطنية مصرية حيوية في منع توسيع التحالف التركي شرق حقول النفط الليبية وميناء سرت والقاعدة الجوية في الجفرة. ويضع هذا الخط 60 في المئة من احتياطات النفط الليبية بالكامل تحت سيطرة “الجيش الوطني الليبي”.

موسكو وواشنطن

من جهتها، لم تتمكن روسيا من ترجمة السباق للسيطرة على الغاز البحري لصالحها، لكنها أظهرت قدرة شديدة على استغلال الفُرص التي نجمت عن أوجه القصور في السياسات الأميركية – في سوريا على سبيل المثال وفي الآونة الأخيرة في ليبيا. تُقاتل القوات المرتبطة بموسكو إلى جانب “الجيش الوطني الليبي”، ويبدو أن الطيارين الروس والليبيين يتدربون في الأجواء الليبية على الطائرات الحربية الروسية المُوَرَّدة حديثاً.

واشنطن ليست قلقة أو متلهّفة لاختيار الفائزين في الصراعات المتزايدة التي تُحدد وتُشكّل المنطقة بشكل متزايد. في 26 حزيران (يونيو)، عبّرت السفارة الأميركية في ليبيا عن معارضتها لما وصفته بـ “حملة مدعومة من الخارج لتقويض قطاع الطاقة في ليبيا ومنع استئناف إنتاج النفط”، في إشارة على ما يبدو إلى القوات الموالية لحفتر.

في ليبيا، كما في سوريا، تُفضّل واشنطن ببساطة تجميد الصراع مع الحدّ من الجهود الروسية لتوسيع بصمتها الاستراتيجية.

“إن مشاركة روسيا المستمرة في ليبيا تزيد من العنف وتأخير الحل السياسي” بقول الجنرال برادفورد غيرنغ ، مدير العمليات في  “أفريكوم”. مضيفاً: “تواصل روسيا الضغط من أجل موطئ قدم استراتيجي على الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي، وهذا على حساب الأرواح البريئة الليبية”.

حتى في الوقت الذي يتجنّب الخصوم الجهود المبذولة للتوصل إلى حلول مُربحة للجميع، تستمر تكاليف الإستقطاب المتنامي في المنطقة في النمو.

وقد حذّر رئيس جمهورية قبرص، نيكوس أناستاسيادس: “إذا فكرنا في حل عسكري من خلال العسكرة ، فستكون هذه نهاية الهيلينية القبرصية، التي لا أريدها”.

وشدّد أناستاسيادس على أنه يسعى إلى حل ديبلوماسي بحت للتهديد الجيوسياسي الذي تُشكّله تركيا لقبرص وعدم الإستقرار العام الذي تسببه في شرق البحر الأبيض المتوسط.

هل يلتزم القادة الآخرون في المنطقة بالاستراتيجية نفسها؟

  • جيفري أرونسون هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وجهات النظر المعروضة في هذا المقال هي خاصة به.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى