التعليمُ عَنْ بُعْد … بَينَ تَشريعِ الضَرُورة وتَسليعِ الضَرَرإ

بقلم الدكتور جورج كلّاس*

عندَما يُصبِحُ السِباقُ الى التشريعِ مُباراةً وُدِّيَّةً في ملاعِبِ الوطن، في غَفلَةِ الإنشغال بقضايا كِيَانيَّةٍ، والغَرَق في أزماتٍ إقتصاديَّةٍ، وتَخَبُّطٍ إجتماعيٍّ حادٍ، قولوا: على الدُنيا السلام .!

لَيْسَ ما أَفرزتهُ أزمَةُ كورونا، في الواقع السياسي والعجْزِ المالي والتشظّي الشارعي هو قلبُ المشكلة، بل الخطرُ الأغبى المُتَشَخصِنُ في ارتجالات أفكارٍ وإستيرادِ مشاريعَ غريبَةٍ عَجيبَةٍ وإسقاطُها على الواقع التربوي والأكاديمي اللبنانيِّ المأزومِ أَصلاً، بِسبَبِ ما أصابَ التعليم اللبناني من نَحْرٍ من الخَلفِ واغتيالٍ عَنْ بُعد.!

فَبعدَما كان لبنانُ ذا تُراثٍ رفيعٍ ومَرموقٍ عالميّاً على المستويين التعليمي التربوي والأكاديمي التَخَصُّصي، على مدى أكثرَ من قَرنٍ و نصفٍ من الريادةِ وتحقيق إنجازاتٍ تخصّصية في مُستوياتٍ نَوعيَّةٍ و مُتنَوِّعَةٍ في مُختلفِ العلوم ، و بعدَما كان لبنان قبلةَ التعليم والتَعَلُّمِ العربي، وتركَ فِعلهُ في تَقعيدِ أسس النهضة الفكرية العربية، فإنَّهُ اليوم َ يُعاني من أخْطَارٍ مَرَضِيَّةٍ تُهَدِّدُ سلامَته واستمراريَةِ تأديتِه لواجبِ التعليم والترقية المجتمعية، ويعيشُ هَمَّاً داهِماً و أخطرَ، هو التَشخيصَاتُ المُتَسَرِّعَةُ لِمحاولةِ إيجادِ مخارج وطرحِ تَصَوُّراتٍ، غِلافُها تقديمُ أفكارٍ تشريعيةٍ لمواكبة التعليم في زمن الأزمات وغايتُها تَسويقُ التعليمِ عَنْ بُعْد تَحقيقاً لغايات، بَعضُها مَرئِيٌ ظاهرٌ وأَكثرُها مُضْمَرٌ خَفِيٌ…!

لَسْتُ حَريصاً أكثرَ من غيري على التربية والتعليم العالي في لبنان، لكنني بالتأكيدِ مِنَ الخائفينَ على قابلِ أيَّامِ التعليمِ العالي، ومنَ المُتَخَوِّفينَ تَسرُّعاتِ الطَرحِ وتسويقِ مشاريعَ قوانين للإيحَاءِ بأَحَقِيَّةِ المَوضوعِ المُسَوَّقِ لَهُ. وكلُّ ذلكَ خارِجَ الأُطُرِ الإستشاريِّةِ اللاَّزمةِ والمُلزِمَةِ لِبلْوَرَةِ فِكْرٍ تَربَويٍّ حَديثٍ، وكَأَّن لَيْسَ في لبنانَ صُروحٌ أكاديميةٌ عريقةٌ ولا فيهِ مراكِزُ بُحُوثٍ ودراساتٍ تربويةٍ متخصِّصَة، ولَمْ يَبقَ فيهِ مَنْ يَعرِفُ ماذا يطرحُ وكيفَ يطرحُ وماذا يطرح!!؟

إنَّ مِحورِيَّةَ الكلامِ في هذه المرحلةِ المُتشعِّبَةِ التداخلاتِ والكَثيرَةِ التشابُكاتِ تتَرَكَّزُ على تَأكيدِ فِعْلِيَّةِ التشريع الهادئ والرصين والواعي لدورِه الدقيقِ، وإبرازِ فاعليَّتِهِ في إعتمادِ آليَّةٍ تَطَوُّرِيَّةٍ لإنجازِ تشريعاتٍ تُحاكي العصرَنة والحداثة، بعيداً من استغلاليَّةِ الظرفِ للترويج لبرامجَ ومفاهيمَ مُستَوْردةٍ ولا تَتَصِفُ بالجودَةِ وقدْ تنعكِسُ خَطراً على دورِ التعليم العالي وتراثه و مستقبلهِ و ريادتهِ و تألُّقِيَّتِه الإعتماديَّةِ في المحافل الجامعية العالمية !

نَعم أنا خائِفٌ …أنا مُتَخَوِّفٌ…أنا أُخَوِّفُ..!

١- أنا خائفٌ أَنْ تَستَعرَ فوضى الجامعات المُخالفة والمُرتَكِبَة والمَشبوهة، وأنْ تَتَسلَّحَ بالكلام التسويقي للتعليم عن بُعد، وهي التي كانت ترتَكِبُ المخالفات والجرميَّاتِ التزويرية عن قُربٍ و عَنْ بُعدٍ و في الظلامِ و في الليل..!

٢- أنا مُتَخَوِّفٌ من أَن تَستقيلَ الكِتلُ النيابيّةُ من دورها في طلبِ الإستشارات ودراساتِ الجَدوى التي يجب ان تسبقَ أيَّ طرحٍ لمشروع قانون. ومُتَخَوِّفٌ أكثر من غيابِ المُثقّفِ والمُربّي والمستشار التربوي أو تَغييبِه..ومُتخَوِّفٌ بقوَّةٍ من غيابِ الأحزاب وإختبائها وضُعفِ رأي مكاتبها التربوية، أوْ تغاضيها عَمَّا يحصل خَفاءً و علانِيَّةً، من دون أن أعثُرَ على مُبرِّراتٍ وأسبابٍ تَخفيفيَّةٍ لهذا التراخي والتَغَايُبِ غيرِ المُغْتَفَر…!

٣- أنا أُخَوِّفُ من حالاتِ تَوَسُّعِ رُقَعِ فوضى التعليم العالي الخاص في بعض مناحيه التجارية والتضاربية، لأننا قد نَشهدُ حالاتٍ غيرَ معروفةٍ قبلاً وغيرَ مُمكنَةِ التَخَيُّلِ في إطار المُضاربات الجامعية في أسواق القَطعِ والأقساط، مُعَزَّزةٍ بحملاتٍ دِعَائيَّةٍ للترويج لإختصاصاتٍ غير مُعتَرَفٍ بها أصلاً و أُصولاً. وأنا أُخَوِّفُ الطلابَ وأهاليهم من الوقوع في هذا الشَرَكِ الذي قدْ يقعونَ بينَ مخالبه، فَيخسرون أموالَهم و تَضيع ُ أَعُمارُهم، في بواطنِ الجَشَعِ الإفتراسيٍّ..فهلْ مِنْ مُنْقِذٍ قبلَ أَنْ تكتَمِلَ حلقاتُ التسويق والفوضى في ظلِّ عدم صدور قانون ضمانةِ جودةِ التعليم، والفراغِ الحاصل في المديرية العامة للتعليم العالي، وعدم إقرار هيكلية إداريةٍ لها..!

هذه المخاوفُ التي أَحرصُ على تكرارِ التنبيه من تداعياتها، أضعها أمانةً بعهدة رئيسة اللجنة النيابية للتربية والثقافة، السيدة بهِيَّة الحريري، العارِفةِ بكلِّ مفاصل هذه الأزمة والمُدرِكةِ عَنْ قُربٍ للمخاطرِ التي تَحوطُ بالتعليم عَنْ بُعد..!

  • الدكتور جورج كلاس هو كاتب وباحث أكاديمي لبناني. كان عميداً لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى