كارثة ديون سيادية تُهدّد العالم … كيف نمنعها؟

يواجه العالم مع إنتشار جائحة “كوفيد-19” كارثة مالية هائلة سببها السندات السيادية التي أصدرتها الدول في جميع أنحاء العالم لمواجهة تداعيات الوباء الإقتصادية والإجتماعية. “أسواق العرب” تنشر خطة لإغاثة الأسواق الناشئة أعدها سبعة من الأكاديميين الأميركيين والبريطانيين المتخصصين في القانون والإقتصاد والأعمال.

لبنان: ديونه السيادية فاقت ال86 مليار دولار

 

شارك في هذا التقرير: باتريك بولتون، لي بوخيت، بيار-أوليفييه غورينشا، ميتو غولاتي، تشانغ-تاي هسيه، أوغو بانيزا، بياتريس ويدر دي ماورو*

لمكافحة وباء فيروس “كوفيد-19” والدمار الإقتصادي الذي خلّفه وتسبّب فيه، راكمت كل البلدان في جميع أنحاء العالم مبالغ غير عادية من الديون. بالنسبة إلى البلدان المُتقدّمة في شرق آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، لم يُشكّل هذا الأمر مشكلة. لقد أصدرت سندات حكومية بتريليونات عدة من الدولارات بأسعار فائدة مُنخَفضة للغاية. والأكثر من ذلك أن المستثمرين المُتوَتّرين توافدوا على هذه السندات، التي يُنظر إليها عادةً على أنها استثمارات آمنة في أوقات الضغط والأزمات الصعبة.

بالنسبة إلى الدول الأكثر فقراً في العالم، القصة مُختلفة جداً. إنها بحاجة أيضاً إلى الإقتراض والإنفاق للتخفيف من حدّة الأزمة – في كثيرٍ من الحالات، أكثر من الدول الغنية. لكنها لا ترى في أيّ مكان المستوى ذاته من الحماس لسنداتها والإقبال على شرائها بين المستثمرين في القطاع الخاص. ونتيجة لذلك، إضطرّت أكثر من 100 دولة إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات طارئة. وقد وافق الصندوق بالفعل على 25 منحة رئيسة لبعض أفقر البلدان، بما فيها أفغانستان وهايتي واليمن. لكنه لن يكون قادراً على تلبية احتياجات التمويل غير العادية للعالم النامي، والتي يتوقع الصندوق نفسه أن يتجاوز 2.5 تريليوني دولار.

وبدون تمويل إضافي، سَيتعَيَّن على حكومات العديد من البلدان المُنخَفِضة والمُتوسّطة الدخل الإختيار بين إنقاذ شعوبها وخدمة ديونها. كانت بعض هذه البلدان، مثل الأرجنتين ولبنان، على وشك التخلّف عن السداد وغير قادرة على اقتراض أموال إضافية من الأسواق الدولية قبل تفشّي الوباء. لكن العديد منها قد غرق في أزمة بسبب جائحة الفيروس التاجي وهجرة المستثمرين التي أعقبت ذلك. ما لم تنتعش أسواق التصدير وأسعار السلع بسرعة، حتى البلدان التي تتخلّى عن الإنفاق الحيوي على الصحة العامة والإنتعاش الاقتصادي يُمكن أن ينتهي بها الأمر إلى التخلّف عن سداد ديونها.

باختصار، إن “تسونامي” من ضائقة الديون السيادية آتية. وخيار الدائنين الخاصين من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بسيط وقاسٍ: الموافقة على عملية مُنَظَّمة لتخفيف الديون التي تشارك في العبء وتَحدُّ من الضرر، أو تطلب السداد الفوري وتُطلق موجة من التخلف عن السداد الكارثي الذي يجرف العديد من البلدان – ودائنيها – بعيداً.

الغرق في الديون

بدت الإستجابة الأوّلية للقطاع الخاص على أزمة الفيروس التاجي واعدة. في 9 نيسان (إبريل)، أصدر معهد التمويل الدولي  (Institute of International Finance)- وهو اتحاد لأكبر البنوك التجارية والاستثمارية وشركات التأمين وشركات إدارة الأصول في العالم- خطاباً مفتوحاً يوصي فيه كلّاً من الدائنين الحكوميين والتجاريين بإعادة جدولة مدفوعات الفائدة لأشد البلدان فقراً حتى نهاية العام 2020.

لكن، منذ ذلك الحين تراجع معهد التمويل الدولي وأعضاؤه عما ورد في الخطاب المفتوح. في رسالة نُشرت في الأول من أيار (مايو)، حذّر المعهد من أن طلب تعليق مدفوعات خدمة الديون في القطاع الخاص قد تكون له عواقب وخيمة. علاوة على ذلك، من المرجح أن يتضمّن هذا الطلب عملية طويلة وشاقة لإعادة التفاوض، وليس هناك ما يضمن منح أي إغاثة. بعبارة أخرى، قد يُعاني بلدٌ ما من جميع النتائج السلبية لطلب التأجيل من دون تلقي تأجيل فعلي للعديد (أو أيّ) من مدفوعاته. وأشارت الرسالة أيضاً إلى أن الواجبات الإئتمانية للمُستثمرين، والإلتزامات التعاقدية، والمُتطلبات التنظيمية، والقوانين الوطنية يُمكن أن تقف في طريق التعليق. إن رسالة معهد التمويل الدولي واضحة: “إستسلم وادفع أو شيء آخر!”.

في النهاية، يُدافِع معهد التمويل الدولي عن مصالح الدائنين في القطاع الخاص، ويُفضّل هؤلاء الدائنون بأن تدفع الأطراف الأخرى – أي الحكومات الوطنية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي – فاتورة هذا الوباء. من خلال رفض تأجيل مدفوعات خدمة الديون، يأمل الدائنون في القطاع الخاص في تقليل مبلغ أموالهم التي تُعيد الدول المدينة توجيهها نحو التخفيف من حدّة الوباء – وهي فائدة واضحة لهم. حتى الآن، في لعبة حافة الهاوية المالية هذه، كانت الحكومات هي التي تومض أو “ترمش” أولاً. في 15 نيسان (إبريل)، أعلنت مجموعة العشرين، وهي مجموعة تضم 20 من أكبر الاقتصادات في العالم، أنها ستُعلّق من جانب واحد مدفوعات خدمة الديون للدائنين الرسميين لـ 76 دولة مُنخفضة الدخل التي تطلب المسامحة أو التأجيل.

كان يُمكن لمجموعة العشرين أن تُكيّف تسامحها وتأجيلها على مطابقة مشاركة القطاع الخاص. بعد كل شيء، فإن البلدان التي تسعى إلى تخفيف عبء الديون من نادي باريس، إحدى المجموعات الرئيسة للدول الدائنة، عليها التزام قانوني بالسعي إلى “معاملة مماثلة” من الدائنين التجاريين. ولكن لأسباب نفعية سياسية، لم تفعل ذلك. وبالنتيجة، رأى دافعو الضرائب الذين يُموّلون حكومات مجموعة العشرين أن كرمهم ينزف ببساطة لدفع الدائنين التجاريين. وإلى أن يتدخل المجتمع الدولي بواسطة اقتراح يُغير الحوافز للدائنين في القطاع الخاص، سيستمر هؤلاء المستثمرون في مقاومة استيعاب الدول المدينة وقد يجبرون هذه الحكومات التي تُعاني من ضائقة مالية في نهاية المطاف على تحويل مواردها المتضائلة لخدمة ديونها الخاصة.

تخفيف الحِمل

لتجنّب سلسلة كارثية من التخلّف عن السداد، يجب على الحكومات والدائنين في القطاع الخاص تقاسم عبء تخفيف عبء الديون. هذه مسألة تتعلّق بالعدل وضمان التمويل الكافي. ولكن لا يُمكن لخطة ناجحة لتخفيف الديون الإعتماد على مبادرة من الدائنين الأفراد، لأنه من غير المرجح أن يخففوا من معارضتهم لتأجيل الديون في ظل الظروف الحالية، وعلى أي حال، فإن الإعفاء المُقدَّم من الدائنين المشاركين سيذهب ببساطة نحو مدفوعات خدمة الديون لغير المشاركين منهم. ولهذا السبب، إقترحنا آلية من شأنها أن تسمح للبلدان الفقيرة ببدء عملية تأجيل الديون من دون الحاجة إلى التنسيق بين جميع دائنيها المُنفصلين.

تدعو خطتنا البلدان إلى إعادة توجيه مدفوعات الفائدة على كلٍّ من الدين الحكومي والخاص إلى مؤسسة مركزية للتسهيلات الإئتمانية، أي بنك مؤقت من نوع ما. ستقوم مؤسسة التسهيلات الإئتمانية بعدها بإقراض مدفوعات الفوائد المُودَعة إلى الحكومات بأسعار مُنخفضة بشرط أن تذهب هذه القروض حصرياً نحو التخفيف من جائحة “كورونا” وتداعياتها. ومن ناحيتهم، فإن الدائنين الذين تستحق لهم مدفوعات الفائدة سيحصلون على حصة في مؤسسة التسهيلات الإئتمانية تتناسب مع حجم مدفوعات خدمة الدين المؤجلة. وسيتم تأجيل المدفوعات على رأس المال بشكل مُنفصل.

ويمكن تنفيذ نهجنا بسرعة وسيؤدي إلى تلقي جميع الدائنين معاملة مُماثلة. نحن نُقدّر أنه يُمكن أن يُوفر ما يصل إلى 800 مليار دولار من القروض إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. حتى تلك البلدان التي أعربت عن مخاوفها بشأن مطالبة الدائنين من القطاع الخاص بتخفيف عبء الديون – مثل بنين وباكستان ورواندا – ستجد أن هذا الاقتراح يُعالج معظم مخاوف دائنيها. والأكثر من ذلك، إن الخطة تمنح الدول المدينة سلطة الشروع في عملية التأجيل وتتطلب من الدائنين الانسحاب بدلاً من المشاركة، وبالتالي حلّ مشكلة العمل الجماعي.

ماذا يحدث إذا قرر بعض الدائنين الصمود والتقاضي بشأن المبالغ غير المدفوعة والمفقودة؟ هذا غير مرجح، لأن مطالبات أي دائن فردي ستكون صغيرة – بضع دفعات فائدة – وربما لا تستحق التقاضي. علاوة على ذلك، فإن أي دائن حاول استخدام فشل دولة ما في الدفع لطلب السداد الفوري للديون بأكملها سيؤدي فقط إلى دفع البلاد إلى أزمة ديون لا رجعة فيها – وهو الأمر الذي كان بإمكان الدولة ودائنيها تجنّبه. ولعلّ الأهم من ذلك أنه من غير المرجح أن يواجه الدائنون سلطة قضائية مُتعاطفة في أي ولاية قضائية دمّرها الفيروس التاجي وتداعياته الاقتصادية. في بعض الولايات القضائية، يُمكن التذرّع بمبدأ الضرورة في القانون الدولي لتبرير تعليق مؤقت لخدمة الدين. ويسمح هذا المبدأ للدول التي تواجه أوضاعاً قاسية بالإنفاق على الرفاهية العامة والصحة بدلاً من خدمة ديونها.

قد يكون الأسوأ لم يأتِ بعد. في البلدان الأكثر فقراً، يمتلك الدائنون الخاصون عشرة في المئة فقط من الديون السيادية. وعلى النقيض من ذلك، يمتلك القطاع الخاص في كثير من البلدان المتوسطة الدخل أكثر من 80 في المئة. وقد أعرب الدائنون التجاريون بالفعل عن إحجامهم عن تأجيل ديون أفقر البلدان. سيكون من الخطأ – خطأ باهظ الثمن – السماح لهم بحرية القرار والضغط عندما تأتي البلدان ذات الدخل المتوسط ​​للإتصال بهم في غضون بضعة أشهر.

  • باتريك بولتون أستاذ إدارة الأعمال في جامعة كولومبيا. ولي بوخيت أستاذ فخري في كلية الحقوق في جامعة إدنبره. وبيار-أوليفييه غورينشا أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. تابعوه على تويتر: @pogourinchas. وميتو غولاتي أستاذ القانون في جامعة ديوك. تشانغ-تاي هسييه أستاذ علوم الاقتصاد في كلية الأعمال في جامعة شيكاغو. وأوغو بانيزا هو أستاذ علوم الاقتصاد في المعهد العالي للدراسات الدولية والإنمائية. تابعوه على تويتر: @upanizza. وبياتريس ويدير دي ماورو هي أستاذة الاقتصاد في معهد الدراسات العليا للدراسات الدولية والإنمائية ورئيسة مركز أبحاث السياسات الاقتصادية. تابعها على تويتر: @bweder.
  • نُشر هذا التقرير أيضاً بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى