كيفَ يُمكِن إنقاذ القطاع المصرفي في لبنان؟

بقلم الدكتور مروان القطب*

يضمّ القطاع المصرفي في لبنان اكثر من ستين مصرفاً، ويبلغ عدد الفروع المُنتشرة في لبنان في حدود ألف فرع، ولدى ١٦ مصرفاً لبنانياً تواجداً في اكثر من ٣٠ دولة عربية وأجنبية. كما بلغت موجودات المصارف في نهاية العام ٢٠١٩ حدود ٢١٦ مليار دولار، أي ما يوازي أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للدولة اللبنانية.

وعلى الرغم من هذه المؤشرات دخلت المصارف التجارية اللبنانية في أزمة حادّة عقب أحداث ١٧ تشرين الاول (أكتوبر) ٢٠١٩، حيث تعثرت وتكبدت خسائر كبيرة بصورةٍ تُهدّد وجودها واستمراريتها. فما هي اسباب هذا التعثّر؟ وما هو حجم هذه الخسائر؟ ومَن يتحمل مسؤوليتها ؟ وبالتالي، ما هي الحلول للخروج من الأزمة؟

تحوّلت المصارف اللبنانية على أثر الأزمة إلى صناديق يسحب منها المودعون أموالهم وفقاً للسقوف المُحدَّدة من قِبَلِها، ولم تعد تلعب دور المُموِّل للقطاع الخاص، او صانع نظام المدفوعات الذي يُحرّك النشاطَ الإقتصادي.

ويرجع ذلك بصورة أساسية إلى سوء إدارة المخاطر من قِبَل القطاع المصرفي. فحوالي ٧٠ في المئة من الودائع تمّ استعمالها لتمويل جهّةٍ واحدة هي الدولة اللبنانية، بما في ذلك المصرف المركزي. وهذا ما يُطلَق عليه مخاطر التركيز، مع العلم المُسبَق بالأوضاع السيئة للقطاع العام والمخاطر الكبيرة المُحققة، عدا عن تراجع التصنيف الإئتماني للدولة اللبنانية، حيث تمّ إقراض الدولة بفوائد عالية تتجاوز المألوف في الأسواق المالية العالمية، ما يعني ان المصارف التجارية لم تُراعِ قواعد “بازل” المُتعلّقة بإدارة المخاطر، لا سيما مخاطر الإئتمان ومخاطر السوق.

ونتيجة للإدارة السيّئة للمخاطر وقع القطاع المصرفي في خسائر مالية كبيرة تعود بصورة اساسية الى العوامل التالية:

١-  عجز الدولة عن ردّ وسداد ديونها، وكانت البداية في آذار (مارس) المنصرم عندما أعلنت الحكومة عن امتناعها عن تسديد سندات اليوروبوند؛

٢-  الفجوة الضخمة في موازنة مصرف لبنان (المركزي)؛

٣-  تراجع القيمة السوقية لسندات اليوروبوند، وهذا التراجع كبّد المصارف خسائر تتراوح بين سبعة الى ثمانية مليارات دولار أميركي؛

٤-  التعثّر الحاصل في محفظة القروض الممنوحة الى القطاع الخاص بسبب الأوضاع الإقتصادية والنقدية السيّئة. وتُقدَّر الخسائر الناجمة عن هذا التراجع بحدود ١٢ مليار دولار أميركي.

ما يعني ان الخسائر الناجمة عن تراجع القيمة السوقية لسندات اليوروبوند، وقيمة التعثّر في محفظة القروض، تساوي قيمة إجمالي رؤوس أموال المصارف اللبنانية التي تُقدَّر بعشرين مليار دولار أميركي.

أما مَن يتحمّل مسؤولية هذه الخسائر فهي إشكالية أساسية، وهي محور الصراع بين الأطراف الفاعلة. ويُمكننا ان نُعدِّد الجهات الاساسية المسؤولة على الشكل التالي:

١-  الدولة، وهي التي اقترضت الأموال من المصارف، ولم تُنفقها بطريقة رشيدة، ويقتضي ان تتحمّل جزءاً من المسؤولية؛

٢- المصارف التجارية، وفي المُقدّمة المساهمون الذين يملكونها، والذين استفادوا من أرباحٍ كبيرة خلال سنواتٍ طويلة؛

٣- المُودعون، الذين أودَعوا أموالهم في المصارف، وفئة منهم من أصحاب الودائع الكبيرة استفادت من الفوائد المُرتفعة. إلّا أنه لا يجوز معاملة كل المودعين بذات الدرجة في تحمّل المسؤولية، خصوصاً أن فئةً كبيرة هي من المُتقاعدين والفئات محدودة الدخل؛

٤- مصرف لبنان، الذي يقتضي ان يتحمل المسؤولية الأساسية عن غياب الضبط الفاعل لإدارة المخاطر في المصارف، وعن السياسات النقدية المُكلِفة، والهندسات المالية التي أكسبت القطاع المصرفي أرباحاً طائلة.

اما بالنسبة إلى الحلول فإنها تحتاج الى وقت لبلورتها والمضي فيها، وإلى توافقٍ سياسي جامع. إلّا أنه لا بدّ من التمييز بين ثلاثة ملفات: الأوّل، التعثّر في محفظة القروض التجارية. والثاني، أزمة السيولة لدى المصارف. والثالث، محفظة الديون السيادية.

بالنسبة إلى الملف الاول، فقد بلغت قيمة محفظة القروض المصرفية الممنوحة الى القطاع الخاص بنهاية العام ٢٠١٩ حوالى ٤٢ مليار دولار أميركي، وهي قروضٌ بالدولار وبالليرة اللبنانية، ومُنِحَت للشركات وللأفراد، وتُشكّل جوهر عمل القطاع المصرفي كمُموّل للإقتصاد الوطني. إلّا أنّ الخطأ الذي ارتكبه القطاع المصرفي هو أنه كرّس ٢٥ في المئة فقط من أصوله لإقراض القطاع الخاص، في حين ان غالبية أصوله استُخدِمَت في السندات السيادية.

ويُمكن حلّ مشكلة القروض المُتعثّرة من طريق إعادة جَدوَلة للقروض بطريقة تُراعي الأوضاع الإقتصادية القائمة، وتأخذ بعين الإعتبار مستوى الفوائد، شريطة ان تُواكَب بخطةٍ حكومية لإصلاح الأوضاع المالية والإقتصادية. ومعالجة هذا الملف تُمكّن المصارف من حل جزء من مشكلة الودائع المصرفية.

أما بالنسبة إلى مشكلة السيولة المصرفية، فيجب اتخاذ مَسارَين أساسيين: الأول، دمج المصارف، خصوصاً تلك التي تُعاني من صعوبات في السيولة مع المصارف الأخرى التي تكون في وضعيةٍ أفضل، ويجعل الدمج المصارف أقوى أمام مواجهة التحديات ومعالجة الأزمات، إلّا أن العقبة التي تواجه عملية الدمج هي أنّ قسماً كبيراً من المصارف لها طابعٌ عائلي.

ويكمن المسار الثاني في إعادة رسملة للمصارف من طريق إدخال رؤوس أموال جديدة من الداخل والخارج. ويقتضي أن يترافق ذلك مع إعادة التوازن لموازنة مصرفية شفّافة وواقعية. وهذا الأمر يُعزّز الملاءة المصرفية ويُحسّن وضعية القطاع، ويُعيد دوره الأساس كمُموّل للإقتصاد الوطني، وكنظام لتسوية المدفوعات الداخلية والخارجية.

أما الملف الثالث المُتعلّق بمحفظة الديون السيادية، والتي توازي ٧٥ في المئة من الأصول المصرفية، والتي تتكوّن  من سندات الخزينة بالليرة وسندات اليوروبوند، وشهادات الإيداع والودائع لدى مصرف لبنان، ويُقدّر حجمها بحوالي ١٧٠ مليار دولار، فتُعدُّ معضلة فعلية تواجه القطاع المصرفي، ويُقترَح لحلّها إنشاء صندوقٍ سيادي تُدرَج فيه ممتلكات الدولة التي يُمكن بيعها

والأموال المنهوبة المُستعادة. ويتحمّل هذا الصندوق عبء إعادة قسمٍ من الودائع المصرفية الى أصحابها. إلّاأان نجاح هذا الحل يتطلب إدارةً رشيدة لهذا الصندوق، وتوفير المتطلبات القانونية لإنشائه وإدراج  قيمة الأصول العامة فيه. وهذا الأمر يحتاج الى إجماعٍ سياسي عليه، وإطارٍ تشريعي واضح وشفّاف، مع الإشارة إلى أنه إلى تاريخه لم يُتَّخذ أي إجراء في هذا الإتجاه.

وفي الختام فإن القطاع المصرفي يقوم على الثقة والإئتمان، وهذه الثقة فُقِدَت لدى المواطنين، بسبب الإجراءات المُتّخذة للسيطرة على الودائع، وأدّت الى خروج مليارات الدولارات من الإقتصاد وتخزينها في المنازل. وعدم الثقة بالقطاع المصرفي لا يزول إلّا بالممارسات والإجراءات المصرفية التي تُلبّي مصالح الناس، واعتماد معايير الحَوكَمة المصرفية المُتعارف عليها عالمياً.

  • الدكتور مروان القطب هو خبير لبناني في الشؤون المالية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى