هل تستطيع العملة الرقمية الصينية خلع الدولار عن عرشه؟

في الأسبوع الفائت نشرنا مقالاً لوزير الخزانة الأميركي السابق هنري بولسون الذي قال فيه أن لا خطر على الدولار الأميركي من اليوان الرقمي لأن الصين ليست لديها الشروط والقدرة لعولمة عملتها رقمياً. المقال التالي الذي كتبه خبيران أميركيان يفيدنا عكس ذلك، حيث يؤكد على أن العملة الرقمية الصينية تهدد القوة الإقتصادية والجيوسياسية الأميركية وتجعلها في خطر.

العقوبات الأميركية على إيران كانت عاملاً لخلق عملات رقمية جديدة

بقلم أديتي كومار وإريك روزنباخ*

تخيّل أنه بحلول العام 2022، تلقّت الولايات المتحدة معلومات استخبارية من “الموساد” الإسرائيلي تُفيد بأن إيران تشتري مُكوّنات أساسية لأسلحة نووية وبرامج الصواريخ. العقوبات الإقتصادية الأميركية على إيران لا تزال سارية، لكن الجمهورية الإسلامية حوّلت الكثير من تجارتها الدولية إلى نظام جديد قائم على اليوان – عملة رقمية صينية تسمح لطهران بتجنب المعاملات بالدولار وبالتالي تجنّب المؤسسات المالية الأميركية. ونتيجة لذلك، إرتفعت مبيعات النفط الإيرانية إلى الصين والهند وأوروبا، مما يوفّر للنظام الإيراني تدفقات إيرادات حرجة لا تستطيع السلطات الأميركية مراقبتها. وعندما تُقرر إيران التحرّك بسرعة نحو تطوير أسلحة نووية وصواريخ جديدة متوسطة المدى لحملها وإيصالها، لن تعود الولايات المتحدة قادرة على اللجوء إلى العقوبات باعتبارها إحدى وسائلها الأساسية للردّ على التهديد.

قد يبدو هذا السيناريو بعيد المنال بالنظر إلى الهيمنة الطويلة للدولار. لكن في أواخر نيسان (إبريل) الفائت، وصلت الصين إلى مَعلَم مهم: بعد أكثر من خمس سنوات من البحث من قبل البنك المركزي، أصبحت الصين أول اقتصاد رئيس يجري اختباراً حقيقياً لعملة رقمية وطنية. المشروع التجريبي، الذي يجري في أربع مدن صينية كبيرة، هو علامة واضحة على أن الصين تتقدم على الولايات المتحدة بسنوات في تطوير ما قد يصبح عنصراً مركزياً في الإقتصاد العالمي الرقمي.

يبدو أن صنّاع السياسة في الولايات المتحدة ليسوا مُستَعدين للعواقب. سيؤدي ظهور عملات رقمية إلى تدهور فعالية العقوبات الأميركية، مما يحدّ من خيارات واشنطن للرد على تهديدات الأمن القومي من إيران وكوريا الشمالية وروسيا وغيرها. كما أنه سيُعيق قدرة السلطات الأميركية على تتبع التدفقات المالية غير المشروعة. وفي الوقت نفسه، ستستخدم الصين مجموعة من اليوان الرقمي ومنصات الدفع الإلكترونية القوية ]مثل “علي باي” (Alipay) و”وي تشات” (WeChat)[ لتوسيع نفوذها وتعزيز قدرتها على الإكراه الإقتصادي في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

وبدلاً من الإعتماد على أمجاد هيمنة الدولار على مدى عقود، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل الآن لحماية ميزتها الإقتصادية في الحقبة المقبلة من العملات الرقمية الوطنية. جزئياً، سيتطلب هذا إعادة النظر في الإستخدام العدواني الأحادي للعقوبات وغيرها من أدوات السياسة الإقتصادية القسرية، والتي حفّزت الدول الأخرى على البحث عن بدائل من النظام المالي العالمي الذي تقوده أميركا ويُهيمن عليه الدولار. ولكنه سيتطلب أيضاً إطلاق “مبادرة الدولار الرقمي”، وهو جهد يتطلب جمع الحكومة مع القطاع الخاص لتطوير عملة وطنية رقمية. وإلّا فإن الفشل في التحقق من تأثير اليوان الرقمي الصيني ومراقبته وتطوير بديل أميركي تنافسي يمكن أن يُعوّق بشكل كبير التأثير العالمي للولايات المتحدة في عصر المعلومات.

اليوان الرقمي ليس ك”بيتكوين”

تهدف استراتيجية التنمية الإقتصادية المميزة للرئيس الصيني شي جين بينغ، “صُنِع في الصين 2025″، إلى تحويل الصين إلى بلد رائد في مجال التكنولوجيا المتطورة. وفقاً لذلك، عندما قرر البنك المركزي الصيني في العام 2014 أن العملة الرقمية المدعومة من الدولة لديها القدرة على حماية استقلاليتها المالية وزيادة نفوذها الإقتصادي الدولي، فإن المُكوّنات الأساسية – الذكاء الإصطناعي، وتكنولوجيا ال”بلوك تشين” (blockchain)، ومنصات الدفع الرقمية – كانت بالفعل تحت التطوير.

العملة الرقمية هي أيُّ شكل من أشكال النقود الموجودة في شكل إلكتروني، على عكس فاتورة أو عملة نقدية ملموسة. الودائع المحتفظ بها في البنوك التجارية اليوم رقمية أصلاً، لكنها من مسؤولية الشركات الخاصة – أي أن البنوك المملوكة للقطاع الخاص مُلزَمة بتحويل الودائع إلى نقد كلما أراد المودع سحبها. ستكون العملة الرقمية التي يُصدرها البنك المركزي الصيني مسؤولية الدولة، تماماً مثل النقد. على الرغم من أن هذا التغيير قد يبدو غير ذي أهمية من منظور المُستَخدِمين النهائيين، إلّا أنه أمٌر أساس، نظراً إلى أن البنك المركزي يتمتع بسلطة ورقابة أكثر بكثير على الأموال الرقمية التي يُصدرها.

في العام الفائت، تسارعت جهود الصين لإتقان وإصدار عملة رقمية عندما كشفت شركة “فايسبوك” (Facebook) النقاب عن “ليبرا”، وهي عملة رمزية رقمية يديرها اتحادٌ يضم معظم شركات التكنولوجيا والتمويل، ومدعومة بسلّة من الدولارات الأميركية والجنيه الإسترليني واليورو والين الياباني. وقال مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي ل”فايسبوك”، أمام الكونغرس في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي: “بينما نناقش هذه القضايا، فإن بقية العالم لا تنتظر. إن الصين تتحرك بسرعة لإطلاق أفكارٍ مماثلة في الأشهر المقبلة”. ومن المفارقات أن سعي زوكربيرغ لجعل “فايسبوك” المسؤول عن النظام النقدي المُعولَم حفّز جهود الصين في طرح عملتها الرقمية الخاصة. وقال مسؤول رفيع في البنك المركزي الصيني بعد الإعلان عن “ليبرا”: “إذا قبل الجميع ب”ليبرا” وأصبحت أداة دفع مُستَخدمة على نطاق واسع، فمن الممكن بعد فترة أن تتطور إلى عملة عالمية ذات سيادة فائقة. نحن بحاجة إلى التخطيط المُسبَق لحماية سيادتنا النقدية”.

إن اليوان الرقمي بعيد كل البعد من ال”بيتكوين” (Bitcoin)، وهي أول عملة رقمية على الخريطة. وهي تستخدم تقنية نظيرٍ إلى نظير للعمل بدون مسؤول مركزي. ويحتفظ ملايين عدة من المستخدمين بدفاتر تسجيل حسايات مستقلة لكل المعاملات داخل نظام موزع، ويستخدمون آليات إجماع للاتفاق على المعاملات الصالحة. من المفترض أن تضمن تقنية التشفير أن هويات المستخدمين وسجلات المعاملات خاصة وآمنة وغير قابلة للتغيير. لكن نقاط الضعف في هذا النموذج – قيمته المتقلبة بشكل كبير وتعرّضه لهجمات إلكترونية – حالت دون أن تصبح البيتكوين و “العملات المشفرة” الأخرى أكثر من مجرد أصول مضاربة.

على النقيض من ذلك، فإن اليوان الرقمي شديد المركزية. يُسيطر عليه بنك الشعب الصيني ويتكامل مع النظام المصرفي الحالي في الصين. ومن المُحتمَل أن يتبع هيكلاً من مستويين، حيث يصدر بنك الشعب الصيني عملات رقمية لشبكة من البنوك المملوكة للدولة وشركات الدفع، مثل “علي باي” (Alipay) و”وي تشات” (WeChat)، والتي بدورها ستوزعها على الأفراد والشركات من خلال الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول وتطبيقات المدفوعات. سيكون في قلب النظام النقدي دفتر تسجيل حسابات يُشرف عليه بنك الشعب الصيني وتُديره الشبكة التي تُوثّق جميع المعاملات وتنقل الأرصدة الرقمية بين الأعضاء على الفور. من خلال هذا الهيكل، من المرجح أن يتغلب اليوان الرقمي على العقبات الرئيسة الثلاث التي حالت دون تحقيق العملات المشفرة نجاحاً كبيراً: إستقرار السعر، والمقبولية الواسعة من خلال منصات الدفع في كل مكان، والشرعية في نظر الحكومات والهيئات التنظيمية.

بالنسبة إلى الصين، جزء من جاذبية العملة الرقمية هو استخدامها في مدفوعات التجزئة المحلية. (وبالفعل، فإن البلدان الأخرى، وبخاصة الأسواق الناشئة، التي تستكشف عملاتها الرقمية الخاصة، مُهتمّة بشكل أساس بكفاءة المدفوعات المحلية والشمول المالي، وفقاً لمسح أجراه بنك التسويات الدولية (Bank of International Settlements)). نظراً إلى أن 80 في المئة من مستخدمي الهواتف الذكية في الصين يستخدمون أصلاً منصات الدفع عبر الهاتف المحمول، فإن الفائدة الحقيقية ستأتي من التوسّع في التأثير الإقتصادي والاستراتيجي الصيني في الخارج.

مبادرة حزام وطريق رقمية

العمود الفقري للهيمنة المالية للولايات المتحدة هو جمعية الإتصالات المالية العالمية بين البنوك “سويفت” (SWIFT)، التي تُسهّل الرسائل بين البنوك حول أوامر الدفع، وشبكة من البنوك المُراسِلة الأميركية، والتي تعمل كوسيط لتنفيذ المدفوعات الدولية. يتم توجيه معظم المدفوعات عبر الحدود – حوالي 5 تريليونات دولار يومياً – عبر رسائل “سويفت”، ويتم توجيه جزء كبير من خلال البنوك المُراسِلة الأميركية. يسمح تبادل المعلومات مع هذه المؤسسات للسلطات الأميركية تحديد النشاط غير المشروع، مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب. (على سبيل المثال، يعتمد برنامج تتبع تمويل الإرهابيين التابع لوزارة الخزانة الأميركية — وهي مبادرة أطلقت بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لمراقبة تنظيم “القاعدة” وشبكات الإرهاب الأخرى– على معلومات يتمّ استدعاؤها من “سويفت” للتحقيق في الإرهابيين الدوليين المشتبه بهم وشبكاتهم).

لكن ربّما الأهم من ذلك، أن هذا النظام يمنح الولايات المتحدة نفوذاً هائلاً على الدول الأخرى، لأن العقوبات التي تقطع أي دولة عن هذه الشبكة عادة ما تكون عقوبة إعدام. على مدى العقود الماضية، إعتمدت واشنطن بشكل أكبر على العقوبات كأداة أساسية للسياسة الخارجية، ما زاد من تواتر استخدامها (إرتفعت التسميات الجديدة في العامين الأولين لإدارة ترامب وكانت أصلاً في ارتفاع قبل ذلك) ونطاق القضايا التي تهدف إلى معالجتها ومواجهتها (زاد عدد برامج العقوبات ثلاث مرات من 2009 إلى 2019).

وبدت الدول المُتلقّية لهذه العقوبات بدورها مستاءة بشكل متزايد. ومع ذلك، لم يكن أعداء أميركا وحدهم هم الذين يرون جاذبية وجود بديل من المعاملات العابرة للحدود المرتكزة على الدولار؛ حتى بعض حلفاء الولايات المتحدة يبحثُ عن طرق لتقويض هذا النفوذ. في العام الماضي، دعا محافظ البنك المركزي في المملكة المتحدة آنذاك، مارك كارني، إلى عملة رقمية دولية يُمكن أن “تخفف من التأثير المُستبد للدولار الأميركي على التجارة العالمية”. وقد طوّرت روسيا بديلاً من “سويفت” سمّته نظام نقل الرسائل المالية “أس بي أف أس” (SPFS) ؛ ولدى الصين نسختها الخاصة التي تُدعى نظام المدفوعات عبر الحدود “سيبس” (CIPS)؛ وانضمت خمس دول من الاتحاد الأوروبي إلى أداة دعم التبادل التجاري “إنستيكس” (INSTEX)، والتي تهدف إلى تسهيل المعاملات غير “السويفتية” والمقوّمة بغير الدولار، بشكل أساس مع إيران.

تعمل العملات الرقمية على تعزيز هدف تجنّب المُعاملات بالدولار والرقابة المالية الأميركية، لأنها توفّر آلية قابلة للتوسيع عبر الحدود تتحايل على النظام الحالي. تستكشف البنوك المركزية في كندا وسنغافورة بالفعل استخدام العقود الذكية لتمرير الرسائل بين أنظمة العملات الرقمية، وقد اختبرت السلطات النقدية في هونغ كونغ وتايلاند الدفعات الثنائية بعملاتها الخاصة من دون وسطاء. تُظهر مثل هذه المبادرات إمكانية إتمام المعاملات عبر الحدود بدون “سويفت” وبدون البنوك المُراسِلة الأميركية، وهما ركيزتان مهمتان للهيمنة المالية الأميركية. أنشأ البنك المركزي الأوروبي أيضاً مجموعة عمل مع البنوك المركزية في كندا واليابان والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة لاستكشاف إمكانية التشغيل المتبادل عبر الحدود لمشاريع العملة الرقمية الوطنية.

يُمكن أن يلعب اليوان الرقمي دوراً مهماً بشكل خاص في تعزيز هذه الجهود، مدعوماً باهتمام الصين الواضح بتيسير التجارة الدولية بطريقة تُقوّض نفوذ وتوسّع الولايات المتحدة. في بعض الأماكن، قد تُشارك بكين ببساطة عبر “حزمتها التكنولوجية” أو خبرتها لتسريع تطوير العملات الرقمية من قبل حكومات أخرى مدفوعة بالتهرب من الرقابة الأميركية. على سبيل المثال، يُمكن أن تستخدم إيران التكنولوجيا الصينية لإصدار الريال الرقمي الذي يُمكن تشغيله بشكل كامل مع النظام الصيني. بالنسبة إلى تلك البلدان في أفريقيا والخليج وجنوب شرق آسيا الموجودة فعلياً في المدار الإقتصادي للصين، يُمكن لبكين أن تدفع استخدام اليوان الرقمي نفسه. تماماً كما تموّل مشاريع البنية التحتية المادية اليوم من خلال مبادرة الحزام والطريق، يُمكن للصين أن تستثمر في محطات نقاط البيع وأجهزة الصراف الآلي وتطبيقات الهاتف المحمول وغيرها من البنية التحتية المالية التي تخلق “الحزام والطريق الرقميين” التكامليين. يُمكن للأفراد الذين يرسلون أو يتلقون تحويلات وأنشطة تجارية ذات روابط استيراد أو تصدير كبيرة مع الصين، على سبيل المثال، التعامل باليوان الرقمي باستخدام “علي باي” (Alipay). ومن خلال اشتراط تلقي المستوردين الدفع باليوان الرقمي، أو مطالبة المقاولين في مبادرة الحزام والطريق الحقيقية بسداد القروض باستخدامه، يمكن للصين زيادة الطلب على عملتها الوطنية وجذب المزيد من المستخدمين إلى شبكة يمكنها مراقبتها عن كثب.

لدى الصين الكثير لتكسبه من ريادة عملة رقمية قابلة للتطوير تدعمها الدولة. ستحصل شركات التمويل والتكنولوجيا الصينية التي هي في طليعة الحزام والطريق الرقميين على العائدات من تسهيل المدفوعات عبر الحدود. سيكون لدى بنك الشعب الصيني رؤية شاملة لجميع المعاملات في اليوان الرقمي، ومن المحتمل أن يُعزّز، في جميع المعاملات في الأنظمة التي تستفيد من تقنيته، ميزة المعلومات الخاصة به. وصف المسؤولون الصينيون النظام بأنه يقدم “إخفاء هوية خاضعاً للرقابة”، مما يمنح الحكومة مجموعة بيانات أخرى ليس فقط لتحديد النشاط غير المشروع ولكن أيضاً استهداف المعارضين السياسيين والأقليات. والتعاون الصيني، المهم أصلاً، سيصبح حجر الزاوية في العقوبات المتعددة الأطراف والإتفاقات الإقتصادية الأخرى.

وفي الوقت عينه، سيتم تقويض التأثير الإقتصادي للولايات المتحدة، بدءاً من عقوبات أقل فعالية. وبالمضي قدماً، ستتم إعاقة واشنطن ومنعها، على سبيل المثال، من الانسحاب من جانب واحد من ترتيبات مثل الاتفاق النووي الإيراني، كما فعلت في 2018، حيث يُمكن للدول الأوروبية ببساطة تمديد خط ائتمان لإيران (كما أرادت في 2019) أو التجارة مع إيران (كما تحاول القيام بذلك من خلال “إنستيكس”) باستخدام العملات الرقمية التي لا تعتمد على البنية التحتية للسوق الأميركية. لن تكون الولايات المتحدة غير قادرة على فرض هذا النشاط فحسب، بل ستكون سلطاتها أيضاً محدودة القدرة على تتبعه. قد لا يعود بإمكان أجهزة الاستخبارات الأميركية الإعتماد على بيانات المعاملات المالية لمعرفة ما إذا كانت إيران تشتري مواداً نووية.

الدولار الرقمي

على مدى العقود العديدة الماضية، كانت القوة الإقتصادية الأميركية بمثابة الأساس للقوة العالمية للولايات المتحدة. حتى الآن، يُمكن لواشنطن أن تشعر بالإرتياح حيال حقيقة أن النظام المالي الأميركي حقاً لا مثيل له. يجب على صانعي السياسة الآن أن يُقرّروا كيفية حمايته في حقبة تستطيع فيها الصين – أو حتى شركة خاصة ، مثل “فايسبوك” – تحدّي البنوك الأميركية والبنية التحتية للمدفوعات.

إن مبادرةً لإصدار دولار رقمي ستجمع بين قوة واستقرار الدولار الأميركي مع راحة وكفاءة التكنولوجيا الرقمية. سيكون إطلاق المبادرة صعباً. من المُحتمل أن ترى المؤسسات المالية وشركات التكنولوجيا تهديداً لحلول الدفع الرقمية الخاصة بها؛ سيحتاج صانعو السياسات والهيئات التنظيمية الأميركية بسرعة إلى سد الثغرات المعرفية في تقنيات المدفوعات الرقمية؛ سيلزم عدد كبير من التغييرات التنظيمية والسياسات، على سبيل المثال، لحماية خصوصية المُستخدِم وضمان أمن البيانات والنظام في اقتصاد أكثر رقمنة.

حتى الآن، كان الإحتياطي الفيدرالي الأميركي حذراً ولكنه بطيء. في خطاب ألقاه في الخريف الفائت، أوضح لايل برينارد، عضو مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، العقبات المهمة المتعلقة بإصدار وإدارة الدولار الرقمي، بما في ذلك الحاجة إلى إنشاء السلطة القانونية للاحتياطي الفيدرالي لإصدار الأموال في شكل رقمي؛ الحاجة إلى تطوير القدرة التشغيلية لإدارة العملة الرقمية (حماية خصوصية المستخدم، ومنع التزييف، والتخفيف من المخاطر السيبرانية)؛ والحاجة إلى فهم آثاره في السياسة النقدية والإستقرار المالي. هذه تحديات حقيقية يجب أن تتصدّى لها مبادرة الدولار الرقمي. ومع ذلك، فإن نتيجة التقاعس عن العمل هي أنه بمرور الوقت، ستنتقل تدفقات المدفوعات إلى نظام بيئي رقمي تم بناؤه وإدارته من قبل كيانات أجنبية. لقد أوضحت التأخيرات ومواطن الخلل التقنية في صرف مدفوعات التحفيز ذات الصلة ب”كوفيد-19″ للأسر والشركات الأميركية بالفعل أوجه القصور العميقة في شبكة المدفوعات الأميركية.

ينبغي على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أيضاً أن يُعيدوا النظر في الإستخدام شبه الإنعكاسي للعقوبات الأحادية والثانوية (التي تُحظّر التعامل ليس مع الكيانات الخاضعة للعقوبات فحسب، ولكن أيضاً مع الأطراف الثالثة التي تتعامل معها) لمواجهة تهديدات الأمن القومي. وكما أشار وزير الخزانة السابق جاك ليو: “يجب أن نكون مُدركين لخطر أن الإفراط في استخدام العقوبات يُمكن أن يقوّض مكانتنا القيادية في الإقتصاد العالمي، وفعالية عقوباتنا نفسها”. عندما تكون هناك حاجة ماسة إلى العقوبات، يجب على واشنطن أن تتأكد من ضم حكومات أخرى، خصوصاً حكومات الحلفاء المهمّين. إن الإفراط في استخدام العقوبات من جانب واحد يدفع الدول الأخرى بشكل خاص إلى البحث عن بدائل، وقد يكون اليوان الرقمي في الصين هو الحل الذي يسعى إليه الحلفاء والدول المارقة على حد السواء.

في نهاية المطاف، وبشكل حتمي، تتجه الأنظمة النقدية نحو رقمنة أكبر واستقلال عن وسطاء الولايات المتحدة. سيحتاج صانعو السياسات إلى الاستجابة من خلال صياغة اتفاقات متعددة الجنسيات لتبادل البيانات، ومبادئ توجيهية للأنظمة الرقمية القابلة للتشغيل البيني، وقوانين الخصوصية لبيانات المدفوعات عبر الحدود. يجب على واضعي السياسات في الولايات المتحدة أن يلعبوا دوراً رائداً في هذه الجهود لمنع نظام مدفوعات مُجزّأ وعدم السماح للدول الأخرى بإملاء الشروط.

  • أديتي كومار هي المديرة التنفيذية لمركز بيلفر في معهد كينيدي في جامعة هارفارد. وإريك روزنباخ هو المدير المشارك لمركز بيلفر في معهد كينيدي في جامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الأميركي السابق.
  • نُشر هذا الموضوع أيضاً بالإنكليزية في “فورين أفيرز” وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى