ما هي استراتيجية روسيا للردّ على “صفقة القرن”؟

فيما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عزمه على ضم بعض الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغور الأردن في الأسابيع المقبلة مرتكزاً على خطة ترامب للسلام، تُحاول روسيا من جهتها إيجاد دور لها كوسيط آخر لعملية السلام بين إسرائيل وفلسطين.

محمود عبّاس: ألغى كل الإتفاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

 

بقلم مكسيم أ. سوكوف*

شهدت الأيام القليلة الماضية موجة غير مسبوقة من النشاط الروسي على المسار الإسرائيلي-الفلسطيني. في 19 أيار (مايو)، تحدّث نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث فلاديمير بوتين الخاص للشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، عبر الهاتف مع مساعد الرئيس الأميركي والممثل الخاص للمفاوضات الدولية آفي بيركوفيتش. ويفيد الناطق الصحافي لوزارة الخارجية الروسية بأن بوغدانوف وبيركوفيتش أجريا “مناقشة مُعَمّقة حول قضايا الساعة في جدول أعمال الشرق الأوسط مع التركيز على آفاق التسوية الفلسطينية-الإسرائيلية”.

وفي اليوم نفسه، تحدّث بوغدانوف أيضاً مع كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، وعرض عليه “مساعدة اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط” في عملية السلام – أي الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا.  في وقت سابق من يوم 19 أيار (مايو)، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن انسحاب فلسطين من جميع الإتفاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

في اليوم التالي، إتصل وزير الخارجية الإسرائيلي المُعَيَّن حديثاً غابي أشكنازي بنظيره الروسي سيرغي لافروف. ومن بين القضايا التي ناقشها الديبلوماسيان، كان التركيز – مرة أخرى – على عملية السلام في الشرق الأوسط. هذا خروج نادر عن أجندة السنوات القليلة الماضية، التي كانت تدور بشكل كبير حول إيران ووجود الميليشيات الشيعية في سوريا.

من جهته، جدّد لافروف إستعداد روسيا لتسهيل استئناف عملية السلام “من خلال حوار مباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين ضمن إطار قانوني دولي مُعترَف به بشكل عام” – أي من وجهة نظر موسكو، مع أعضاء آخرين في اللجنة الرباعية.

في وقت لاحق من ذلك اليوم، أخبر السفير الفلسطيني في روسيا عبد الحفيظ نوفل الصحافيين الروس أن الرئيس محمود عباس أرسل رسالة إلى الرئيس فلاديمير بوتين قبل “أسابيع قليلة” يطلب فيها من الرئيس الروسي عقد مؤتمر دولي في موسكو يهدف إلى “إنشاء آلية جديدة للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين لمناقشة عملية السلام”.

إن مبادرات روسيا الأخيرة على هذا المسار لها تاريخ مُعَيَّن وتتبع مخططاً جيداً.

في السابق، إعتبر التقليد السوفياتي الفكري والسياسي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني السبب الجذري لمعظم المشاكل الإجتماعية السياسية في الشرق الأوسط المعاصر. بعد تفكك الإتحاد السوفياتي، كانت روسيا ابتعدت فعلياً من عملية السلام الإسرائيلية -الفلسطينية. وجاءت “العودة المؤسسية” لموسكو لتسوية القضية مع إنشاء “اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط” في العام 2002. ولكن في ذلك الوقت، لم تسمح الموارد الروسية ولا تأثيرها السياسي مجاراة الولايات المتحدة والبقاء على قدم المساواة معها في القرارات الرئيسة الخاصة بالصراع. ولكن، يبدو أن “الربيع العربي”، وما تلاه من ظهور “داعش”، والتركيز على إيران قد حوّلت ديناميكيات الصراع في الشرق الأوسط بعيداً من القضية الإسرائيلية-الفلسطينية. غير أن التطورات السلبية على أرض الواقع للفلسطينيين في السنوات القليلة الماضية، إلى جانب طموح الرئيس دونالد ترامب تنفيذ “صفقة القرن”، أعادا الإهتمام الدولي بعملية السلام.

إعادة المشاركة الروسية

كانت موسكو في البداية مُتشكّكة في خطة ترامب للسلام، وقلقة بشأن آثارها المُحتَملة على مستقبل المحادثات الإسرائيلية-الفلسطينية والإستقرار الإقليمي. لقد أعادت الحملة العسكرية الروسية في سوريا، وجهودها الديبلوماسية داخل مجموعة أستانا، والتحركات على لوحات الشطرنج الأخرى تأكيد موقعها في المنطقة، وعزّزت ثقة القيادة الروسية بأن موسكو هذه المرة قد تكون أكثر صلة بعملية السلام مما كانت عليه في العقود السابقة. حيث أن روسيا كرّست سابقاً الكثير من الوقت والطاقة لاستعادة دورها والمشاركة في اللعبة.

في بعض جوانب القضية، سعت روسيا إلى إظهار نهجٍ أكثر دقة ووضوحاً من الولايات المتحدة. على سبيل المثال، في 6 نيسان (أبريل) 2017، قبل ثمانية أشهر من قرار ترامب الإعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، أصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً بأن روسيا إعترفت بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل وسمّت القدس الشرقية “عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية”. لكن موسكو لم تنقل سفارتها من تل أبيب، الأمر الذي سمح لموسكو رسمياً بالبقاء ضمن “الإطار المعترف به دولياً” في ما يتعلق بـ “الدولة الفلسطينية المستقبلية”. في الوقت نفسه، قامت بلفتة رمزية مهمة للإسرائيليين – قبل الأميركيين.

ومع ذلك، فهمت موسكو أهمية خطة السلام بالنسبة إلى الرئيس ترامب، وأدركت بأن الولايات المتحدة ستمضي قدماً فيها بغض النظر عن كل الإعتراضات. بحثاً عن طرق للإنخراط مع إدارة ترامب، كان الكرملين حذراً بشأن وضع العصي في الدواليب – خصوصاً لأنه افترض أن الخطة ستُعلّق في مرحلة ما على أيّ حال من تلقاء نفسها. لذلك، في حين أن كبار الديبلوماسيين الروس عبّروا من حين لآخر عن انتقادهم لمبادرة ترامب، فقد وضع الكرملين بدلاً من ذلك مقترحات ملموسة يُمكن التعاون بواسطتها مع البيت الأبيض. واقترح دوريات مشتركة محتملة في مرتفعات الجولان وإجراءات أخرى لتوفير الأمن لإسرائيل – المقترحات التي قدمها بوتين لترامب خلال قمة هلسنكي سيئة السمعة في صيف 2018.

بعدما أدركت موسكو أن أياً من هذه الإقتراحات من غير المحتمل أن تتحقّق، تحرّكت لاستعادة وضعها تدريجاً كوسيط مهم في تسوية السلام. بينما كانت تدور العلاقات مع إسرائيل حول حل النزاع في سوريا والمسائل الأمنية المتعلقة بإيران – بشكل أساس من خلال الكرملين ووزارة الدفاع ووكالات المخابرات – ركزت وزارة الخارجية الروسية، على الأقل منذ أواخر العام 2018، على النجاح حيث فشلت مصر سابقاً: التوفيق بين الفصائل الفلسطينية.

في شباط (فبراير) 2019، إستضافت موسكو 12 منظمة فلسطينية – بما فيها “فتح” و”حماس” وحركة “الجهاد الإسلامي” – في محاولة لتسوية الإنقسامات بينها. ولم تُثمر الجهود كثيراً حتى الآن، لكن موسكو تواصل طريقها. علاوة على ذلك، فهي تتابع البحث عن كل فرصة لتحسين العلاقة مع الفلسطينيين وتعزيز دورها كوسيط مُحتَمَل.

ردّ موسكو على خطة ترامب

عندما أعلن ترامب عن الجزء السياسي من خطته في أواخر كانون الثاني (يناير) 2020، ردّت موسكو بهدوء إلى حد ما. من المُحتمل أن يكون التغيير في النغمة علامة على أن موسكو لا تزال على استعداد للإنضمام إلى الخطة إذا كان بإمكانها إيجاد فتحة لنفسها. ولأنها تُدرك جيداً تعقيدات الخطة، والإنقسام الذي أحدثته بين النُخب العربية، ورفضها العام من قبل الشارع العربي، فقد تبنت روسيا نهج الإنتظار والترقّب. في ذلك الوقت كانت الحسابات هي أنه إذا كان العرب سيرفضون الخطة، فلن تبدو روسيا بأنها هي التي نسفتها. إذا مرّت الخطة، وهو أمر إعتبره الكرملين غير مُرجَّح بدون بعض المشاركة الروسية والأوروبية، فإن موسكو ستكون لها مصلحة في هذه العملية. الجزء الأول من هذا الحساب أثبت صحته: رفض الفلسطينيون الصفقة ولم يتم إلقاء اللوم على روسيا في ذلك. أما الأخير فلم يتحقق: الولايات المتحدة لم تطلب من الروس المشاركة.

أدّت أحدث خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “لتطبيق السيادة الإسرائيلية على المستوطنات اليهودية وغور الأردن”، أي الضم، إلى تجدد التصعيد وأطلقت جولة جديدة من المناورات من قبل الأطراف المعنية.

إستجابت روسيا لهذه الخطوة بمزيج من المبادرات القديمة والجديدة. أولاً، أعادت تنشيط وساطتها بين الفصائل الفلسطينية. ثانياً، إقترحت العودة إلى “اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط”. وأخيراً، عرضت تسهيل عقد اجتماع في الأسابيع القليلة المقبلة بين الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية.

وربما كان العنصر الأخير هو العنصر الأكثر إثارة للإهتمام في الجهد الروسي. وكما أفاد باراك رافيد ل”أكسيوس”، من المفترض أن تدعم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي المبادرة في حين أن الفلسطينيين “لا يستبعدونها”، على الرغم من أنهم لم يعطوا إجابة نهائية حتى الآن.

في خضم حملة إعادة إنتخابه ومع اعتبار “كل شيء روسياً” مادة سامة في واشنطن، من غير المرجح أن يتبنّى ترامب مبادرة موسكو للتوسط في المحادثات الأميركية -الفلسطينية المباشرة، أو حتى الجلوس مع بقية اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط لتخطيط تسوية سلمية. حتى لو كان الرئيس الأميركي لا يهتم كثيراً بانتقاد خصومه السياسيين، فإن التراجع عن خطته للسلام لن يكون له صدى جيداً مع قاعدته – أو هكذا يعتقد. ربما يفسر هذا لماذا في المحادثة الهاتفية مع بوغدانوف، يُزعَمُ أن بيركوفيتش قال إن اجتماعاً بين الأميركيين والفلسطينيين، إذا حدث، يجب أن يتمحور حول خطة ترامب، وأن الفلسطينيين “سيتعيّن عليهم إبداء تحفظاتهم وإعطاء مقترحاتهم لتغييرات في الخطة”.

وهذا يُعارض تقريباً الفكرة الروسية في إعادة التسوية إلى إطار الرباعية. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، لا يزال بإمكان روسيا تسجيل نقاط سياسية مع أطراف ثالثة لطرحها اقتراح بناء تم رفضه مرة أخرى.

هل هناك مجالٌ للتعاون؟

قد تكون هناك فرصة للتعاون مع الولايات المتحدة في ذلك في فترة ما بعد الإنتخابات.

في حين أن خطة ترامب تُقدم بعض الفوائد للفلسطينيين، فقد أصبحت تُعتَبر بأنها وُضعت لصالح إسرائيل. وقد تطور موقف روسيا تجاه إسرائيل أيضاً، من المواجهة والموالاة للعرب بشكل علني خلال العصر السوفياتي إلى المزيد من المشاركة، إن لم يكن بتعاطف، بالنسبة إلى المخاوف الإسرائيلية في ظل رئاسة بوتين. في 17 أيار (مايو)، أرسل بوتين رسالة تهنئة لنتنياهو في مناسبة تولّيه منصبه لفترة أخرى كرئيس للوزراء الإسرائيلي. في الرسالة، شدّد الرئيس الروسي على الكيمياء الشخصية التي طوّرها الزعيمان خلال السنوات الأخيرة، وشدد على “التعاون المفيد للطرفين” بين البلدين – وهو أحدث مظهر علني لما يبغيه الكرملين حالياً في تعاملاته مع إسرائيل.

ومع ذلك، فإن التقليد القديم في الديبلوماسية الروسية المتمثل في دعم “القضية الفلسطينية”، والروابط الشخصية والتاريخية القوية بين موسكو ومعظم كبار القادة الفلسطينيين، بالإضافة إلى صورة روسيا باعتبارها “قوة وسيطة جديدة في الشرق الأوسط”، قد يضع روسيا في وضع الشريك الجيد للولايات المتحدة لدفع عملية السلام إلى الأمام من الطريق المسدود الحالي. على مدى السنوات القليلة الماضية، أصبحت القضية مُعقّدة للغاية بحيث يتعذّر حلّها من جانب واحد.

ربما يكون طموح روسيا الجيوسياسي لتحدّي الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو الذي لا يترك شهية كبيرة في واشنطن للتعاون مع موسكو في هذا الشأن ومسائل إقليمية أخرى. يُمكن القول إن هذا الأمر ليس الهدف النهائي لروسيا. بدلاً من ذلك، هذا ما تفعله موسكو – وستستمر في القيام به – حتى تُشارك، أو، في الرواية الروسية، “يتم الإعتراف بها كشريك على قدم المساواة”. لم ينجح الصراع في سوريا كمكان للتعاون، كما تمنّى الكرملين. وعلى الرغم من أنه يبدو ك”كليشيه”، فإنه في ما يتعلق بالقضية الإسرائيلية -الفلسطينية أيضاً، يُمكن لروسيا إما أن تكون جزءاً من المشكلة أو جزءاً من الحل بالنسبة إلى الولايات المتحدة – إما أن تكون مُفسداً أو تساعد إدارة ترامب على إنقاذ ماء الوجه. لطالما كانت عملية السلام مصدراً للتعب و”بطاطا ساخنة” سياسية، لكنها قد تمنح الولايات المتحدة وروسيا فرصة أخرى للتعاون في الشرق الأوسط.

  • مكسيم سوكوف هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، وزميل كبير وأستاذ مشارك في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، وخبير غير مقيم في مجلس الشؤون الدولية الروسي، وزميل بحث مشارك في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية. الآراء الواردة في هذا المقال تُمثل الكاتب.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى