جَرعاتٌ من “المُورفين” المالي

بقلم فيوليت غزال البلعة*

رغم سقطاته المتتالية، لا يزال لبنان يحظى بفُرَصِ نجاة يُغدقها عليه المجتمع الدولي قبل إصدار أحكام نهائية بالإفلاس العلني، وهو ما يعني دخوله في مرحلة جديدة أفقها غير مسقوف. فبعد أسبوع أول من المفاوضات، أوحى صندوق النقد الدولي بـ”إيجابية” تُخيّم على النقاشات، فيما أبقت وكالة “موديز” على تصنيفها الائتماني للبنان عند”Ca” مع نظرة مستقبلية “مُستقرة”، مُنوّهةً بأن أي تعديل للتقييم يرتبط بقدرة الدولة على التزام الإصلاحات البنيوية.

فهل قرأت الحكومة آخر الرسائل؟ وهل سارعت الى تلقف مضامين فيها الكثير من النصائح كما التحذيرات؟

إستراحت الحكومة من همومها في عطلة الفطر السعيد، لكن المناخ السياسي لم يَستكن. إذ تلبّدت المواقف مع طروحات سيادية، شكّلت الفيدرالية محوراً أساس لسجالات من شأنها إثارة قلق المجتمع الدولي لجهة المسار الذي ستتخذه دولة تطلب دعماً مالياً بنحو 10 مليارات دولار…

فقدت الحكومة بوصلة إصلاح مناخ الإستقرار الإقتصادي رغم إنجازات الـ97%، لتغفل حاجات الجياع من اللبنانيين إلى لقمة عيش ووظيفة، ومضت في إلهائهم بملف “الفيول المغشوش”، ليبدو وكأنه محور الحرب على الفساد، ولا ملف سواه أهدر المليارات وأفرغ خزينة الدولة من إيراداتها وفوائضها المالية. بدت الحكومة وكأنها تُحاول تجنّب تجرّع كؤوسٍ مُرّة ستفرضها الإصلاحات، وسيحّل بينها بند “التهريب عبر المعابر غير الشرعية” ضيفاً ثقيلاً على الساحة الداخلية وعلى خط التفاوض مع صندوق النقد، ليزيد الأمور تعقيداً عشية بدء تطبيق “قانون قيصر”.. حيث لقيصر ماله وللبنان فاتورة تُرتّبها العقوبات الجديدة.

لم يتسرّب ما يوحي بسعي الحكومة إلى “لملمة” التباين الداخلي أمام الخارج. وحده وزير المال غازي وزني يؤمن بان لبنان يسير مع صندوق النقد “على الطريق الصحيح” كما يقول، ويتحدّث عن توجّه ودرس لدمج الخطط من أجل توحيد موقف لبنان، وفي ذلك مؤشرٌ جيد لحال الضياع التي وقع بها وفد الصندوق الذي دُعي الى مشاورات حول خطة إنقاذ، فإذا به أمام ثلاث خطط متفاوتة الأرقام والطروحات لحلّ أسوأ أزمات لبنان.

“خطة التعافي المالي” التي وضعها استشاريو حكومة الإختصاصيين، وتستهدف شطب “خسائر الدولة” وتعويضها من رساميل القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف والمستثمرين والمودعين)، فضلاً عمّا تحتويه من “بركة حكومية” لتحويل وجهة الإقتصاد من ليبرالي حرّ الى موّجَّه ومُقيّد.

سمع الصندوق من حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، تقديره لخسائر تمايزت بوضوح مع خطة الحكومة، حيث طالب بتأجيل كلفة تثبيت سعر الصرف لإطفائها لاحقاً من إيرادات مستقبلية (Forward Carry)، سائراً بذلك على خطى المصارف المركزية في العالم. والتزم بالتنسيق مع المصارف، خفض أعبائه بالدولار وبالليرة على ودائع القطاع المالي لديه.

فوجئ الصندوق بخروج خطة المصارف إلى الضوء: إقتراح باستجابة فورية تُعالج احتياجات التمويل الخارجي وتضع المسار المالي ومسار الدين في المدى المتوسط على أساس مُستدام، مع تجنّب التخلّف عن سداد الديون الداخلية تفادياً لعواقب مُدمّرة على الشعب وعلى قدرة البلد لاستعادة الثقة. إطلاق إصلاحات هيكلية لتعزيز النمو المُستدام جرّاء التنويع الإقتصادي، وإنشاء صندوق حكومي لتخفيف الديون، مع رفض لإنقاذ المصارف او تعويمها لأنها “سليمة”.

جيّدٌ إن نجح وزير المال في توحيد لغة التفاوض. لكن، كيف سيمرّ مشروع قانون “الكابيتال كونترول” بكل الملاحظات المرافقة له؟ وماذا عن التعيينات المالية والقضائية التي تطوف على سطح الإهتمامات قبل أن يدفنها عمق خلافات المُحاصصة السياسية؟

كثيرة هي استحقاقات الحكومة. عيبُها في أدائها ومصدر قوتها الذي غلّب لديها لغة العقاب على العقل، ومسار الإنتقام على الإحتضان. فكيف لحكومة بهذا السلوك الخارج عن أي منطق وأصول، أن تشقّ طريق البلاد نحو الإنقاذ؟

أول الإستحقاقات يحين حين يقرّر رئيس الحكومة، الدكتور حسّان دياب، تصويب العلاقة مع حاكم مصرف لبنان، لكي تستقيم أصول التعاون والتنسيق بما يخدم مصلحة اللبنانيين التوّاقين إلى استقرار شامل يطول أسعار السلع، وفرص العمل، والسلامة الصحّية، ومُدّخرات العمر، و”نقطة أمل” بالمستقبل. وهذا لا يكون بتحميل مصرف لبنان “خسائر” ولّدها تخلّف الدولة عن سداد ديونها، بما يتهدّد مصير البنك المركزي ويدفعه نحو الإفلاس.

ثاني الإستحقاقات يَحين عندما يقرّر رئيس الحكومة الإستماع إلى جمعية المصارف والأخذ بملاحظاتها على “التعافي المالي” وبتصويب سياسة تعويض الخسائر بدل تحميلها لأحد أعمدة الإقتصاد، وبتركها تُداوي جروحها مع دعمها بجرعات ثقة، واستخدامها قناة تمويل لمرحلة الإنقاذ الموعود، بدل معاقبتها وإفلاسها، بما يضرب مناخ الثقة بمناخ الأعمال والإستثمار في لبنان.

ثالث الإستحقاقات يحين بعد غد الخميس (28/5/2020)، حيث يُطرح للنقاش في ساحة النجمة مشروعا قانون، أول لـ”الكابيتال كونترول” والثاني لـ”استعادة الأموال المُهرّبة او المنهوبة”، ويستهدفان تغيير طبيعة الإقتصاد الحرّ ويُخالفان القوانين والدستور، إذ يُقيّد الأول حرية تحويل الأموال، ويدفع بالمصارف التي تفتقر الى السيولة، نحو الإفلاس في قضايا قضائية لا يتجاوز حجمها سقف الـ50 ألف دولار. وتُصادر الدولة في الثاني، أموال المصرفيين والمستثمرين والمودعين بعد أحكام مُبرَمة تُصدرها في حق تلك الأموال قبل التحقق من طبيعتها ومصادرها.

قبل نحو أسبوع، دخلت أسواق العالم عملية “التخدير المؤقت” لئلا تشعر بآلام “كورونا” وتداعياتها الإقتصادية. سرّعت المصارف المركزية خطاها لطبع الأوراق النقدية بأحجام قادرة على إغراق الأسواق بشكل لا تشعر معه المجتمعات بالضائقة، مُتغاضيةً عن الآثار الإقتصادية الوخيمة. “التخدير المؤقت” هو ثالث إجراء للمصارف المركزية بعد خفض أسعار الفائدة والموافقة على شراء سندات خزينة حكومية.

لبنان دخل عملية “التخدير المؤقت” حين بدأ يتعالى على الواقع ويتطلع إلى أبعد، حيث يُخشى أن يستهدف جرعات عالية من “المورفين” المالي، لا جرعات كبيرة من الثقة والرغبة الحقيقية في الإصلاح!

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي نُشر عليه أيضاً المقال عينه: arabeconomicnews.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى