كيف يُشكّل الوباء لحظة حاسمة لاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي

بقلم جهاد أزعور*

نحنُ في أزمةٍ لا مثيل لها. إن وباء “كوفيد-19” وهبوط أسعار النفط العالمية يُشكّلان تحدّياً ذا شقّين لبلدان مجلس التعاون الخليجي. في حين أن الحدَّ من الخسائر الصحّية لهذا الوباء هو الأولوية القصوى، يتعيّن على الدول الأعضاء أيضاً معالجة التأثير الإقتصادي لهاتين الصدمتين المُزدوجتين من خلال إجراءات سياسية سريعة وتعزيز التعاون الإقليمي. ولكن يُمكن أن تكون هناك فرصة في كل أزمة. إذا عملت دول مجلس التعاون الخليجي بشكل حاسم – بالبناء والإعتماد على شبابها المُتمرّس بالتكنولوجيا والمُتعَلّم جيداً والتوسّع السريع للإقتصاد الرقمي – فإن المنطقة ستخرج من هذه الأزمة مع أساس أقوى لاقتصاد أكثر تنوّعاً في المستقبل.

والواقع أن تدابير الإحتواء واسعة النطاق ساعدت على إبطاء انتشار الفيروس. بدأ بعض البلدان، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في إعادة فتح بعض الشركات تدريجاً ورفع حظر التجوّل. ومع ذلك، فإن تدابير الإحتواء هذه، على الرغم من أنها ضرورية لحماية الناس، لها تأثير مُدمّر في القطاعات الغنية بالوظائف مثل البيع بالتجزئة والضيافة والسياحة، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر على النُظُم المالية والإقتصاد الأوسع.

لا يبدو مؤشّر مديري المشتريات (Purchasing Managers’ Index)، الذي يقيس الإتجاهات الإقتصادية في قطاعَي التصنيع والخدمات، واعداً. فقد انخفض بنحو 12 في المئة في المتوسط ​​منذ كانون الثاني (يناير) الفائت، مما يشير إلى ضعف النشاط. وفي الوقت عينه، تُشير قاعدة “بيانات غوغل التحرّكيّة” (Google Mobility Database) إلى أن مبيعات التجزئة والنقل إنخفضت بمعدل 40-60 في المئة منذ أوائل آذار (مارس).

بالإضافة إلى ذلك، تراجعت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها التاريخية جرّاء انهيار الطلب العالمي وعدم اليقين بشأن توقعات العرض. وبينما توصّلت “أوبك+”، مجموعة الدول المصدرة للنفط، إلى اتفاق لخفض الإنتاج بحوالي 10 ملايين برميل يومياً في الشهر الماضي، يُمكن أن ينخفض ​​الطلب العالمي بنحو ثلاثة أضعاف هذا الرقم مُقارنةً بالعام الفائت. ويؤدي عدم التوازن هذا بين العرض والطلب إلى زيادة غير مسبوقة في المخزونات وضغط تنازلي على الأسعار. والأخيرة لم تصل إلى هذا المستوى المُنخفض منذ العام 2001، وإذا ظلّت على هذه المستويات، فيُمكن محو وإزالة أكثر من 160 مليار دولار من الإيرادات السنوية لدول مجلس التعاون الخليجي.

من جهتها، تعمل الحكومات الخليجية جاهدة لتخفيف الضربة من خلال إجراءات مالية ودعم بالسيولة من البنوك المركزية. وقد دعمت هذه الجهود عودةً ناجحة لبعض البلدان إلى أسواق رأس المال العالمية، حيث أصدرت قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مجتمعة سندات ب24 مليار دولار في الشهر الماضي، بالإضافة إلى تحقيق مكاسب أخيراً في معظم مؤشرات الأسهم الخليجية. ومع ذلك، من المتوقع أن تؤدي الصدمتان المزدوجتان إلى تقلّص أعمق في الذاكرة الحديثة.

يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش نمو دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 3.3 في المئة هذا العام — وهو ما يُعادل خسارة نحو 260 مليار دولار في الناتج الإقتصادي. هذا التوقع لا يأخذ في الإعتبار تأثير أحدث إتفاقية بين أعضاء “أوبك+”، والتي يُمكن أن تحلق نقطتين إلى أربع نقاط مئوية إضافية من توقعات الدول المعنية، أو المخاطر الإضافية التي قد يؤدي إليها الإنكماش الإقتصادي العالمي الأعمق والأطول. نرى اليوم مؤشرات إلى أن التعافي الإقتصادي سيستغرق وقتاً أطول مما كان مُتوَقعاً في البداية.

إن التحديات كثيرة. لكن الأزمة تُتيحُ فرصةً لتسريع تنويع إقتصادات المنطقة القائمة على النفط. ستساعد السياسات السريعة والشاملة والمتسلسلة بشكل جيد إقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي على البروز والظهور بشكل أقوى وأكثر ازدهاراً.

تظل الأولوية الفورية للحكومات هي حماية الأرواح وحياة الناس. وهذا يعني تعزيز أنظمة الرعاية الصحية والخدمات الأساسية وشبكات الأمان الإجتماعي لتلبية احتياجات السكان المُقيمين، حتى في الأماكن التي لا يوجد فيها سوى مساحة محدودة لتغييرات السياسة.

الأولوية الثانية هي الحفاظ على محرّكات الإقتصاد. لقد قدّمت البلدان الخليجية الدعم في الوقت المناسب للقطاع الخاص والأُسَر، من خلال تدابير مالية هادفة، وتخفيف السياسة النقدية، ودعم بالسيولة من البنوك المركزية.

حيثما كان ذلك مُمكناً، ينبغي على الحكومات أن تواصل اتباع مزيجٍ من هذه السياسات الهادفة في الوقت المناسب ودعم السيولة للقطاعات والمجموعات المتضررة بشدة. يُمكن أن يشمل ذلك، على سبيل المثال، تقديم إعانات مباشرة مؤقتة أو تأجيل المدفوعات الضريبية. يُمكن أن يعني أيضاً تقديم حوافز للشركات لزيادة إنفاقها، على سبيل المثال، من خلال السماح بخصومات أقل في مراحل لاحقة من الإستثمار (شكلٌ من أشكال المحاسبة يُعرف بالإستهلاك المُتسارِع). وهذا من شأنه أن يدعم إنتاج السلع والخدمات ناقصة العرض.

إن الإجراءات التي اتّخذتها المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة لخفض الإنفاق الحكومي في بعض المجالات وتحديد إيراداتٍ إضافية غير نفطية ستساعد على خلق هذا الفضاء. يجب أن تكون متوازنة في المدى القريب ضد احتياجات النمو مع تعويضٍ لدعم الأسر ذات الدخل المُنخفض.

يجب على البلدان ذات الحيّز المالي المحدود والإحتياجات التمويلية الكبيرة أن تبدأ التعديل المالي الآن مع إعادة توجيه الإنفاق الحكومي بعيداً من المجالات ذات الأولوية الأقل، أو تأجيل الإنفاق غير الضروري لتلبية إحتياجات اليوم الملحّة. يجب أن تكون هذه السياسات جزءاً من حزمة أوسع من الاندماج المالي التدريجي المتوسط ​​الأجل مع خططٍ لإعادة بناء المخازن (المصدّات) وضمان الإستدامة المالية. يجب على البنوك المركزية أن تكون مُستعدة لتوفير المزيد من السيولة للبنوك، والحفاظ على خطوط الإئتمان أو زيادتها، وتعديل أو تأجيل مدفوعات القروض أو تقديم الضمانات.

الأولوية الثالثة هي إرساء الأساس للمستقبل. إن شدّة الصدمة وما ينتج عنها من عدم اليقين تتطلبان أجندة تحوّل اقتصادي شامل. وفي بعض البلدان، يجب أن تأتي التعديلات المالية مُسبَقاً قبل الموعد المُقرَّر.

ستحتاج الحكومات إلى استئناف ضبط أوضاع المالية العامة. ولكن الآن أكثر من أي وقت مضى، يجب عليها تنفيذ إصلاحات هيكلية مطلوبة منذ فترة طويلة لتنويع اقتصاداتها، وتحفيز النمو بقيادة القطاع الخاص وخلق فرص عمل. يُمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تفعل المزيد لزيادة حصول الشركات الصغيرة والمتوسطة على التمويل؛ تحسين بيئة الأعمال والحَوكَمة والشفافية؛ تعزيز تنمية سوق رأس المال المحلية والنهوض بالإقتصاد الرقمي.

الهدف الأخير على وجه الخصوص يحمل وعداً كبيراً. إن الإستثمارات التكنولوجية السابقة تؤتي ثمارها الآن. لقد قلّل تقدّم الحكومة الإلكترونية من الإنقطاعات وسهّل الوصول إلى الخدمات العامة الحرجة في أثناء الإغلاق، وسمحت البنية التحتية القوية للإنترنت والإتصالات للكثيرين بالعمل من المنزل. في حين أن التوقعات في المدى القصير قاتمة، إلّا أن القطاعات المُوَجَّهة بالتكنولوجيا لا تزال مُزدهرة، مما يؤكد كيف يُمكن للهياكل الإقتصادية أن تتكيّف بسرعة في الأماكن ذات الإختراق العالي للهواتف المحمولة ولاستخدام التكنولوجيا. على نطاق أوسع، سيُسهّل التحوّل الرقمي المنافسة من خلال تقليل الحواجز أمام الدخول أو الوصول، مما يُمكّن الشباب الماهرين في مجال التكنولوجيا من ترجمة أحلامهم إلى محرّكات مستقبلية للنمو.

يجب أن يكون الإستمرار في تمكين جيل الشباب الماهرين في حقل التكنولوجيا، للعمل وبدء الأعمال التجارية في القطاع الخاص، الركيزة الأساسية للاستراتيجية الاقتصادية في حقبة ما بعد “كوفيد-19”. لم يعد باستطاعة الحكومات في المنطقة أن تبقى أول نقطة اتصال لشخص يبحث عن عمل أو شركة تتطلع لبيع منتجاتها. إنها بحاجة إلى أن تصبح مُسهّلة وعامل تمكين – وليست مُحرّكاً – لنمو القطاع الخاص.

من خلال تلبية الإحتياجات العاجلة والإستعداد بشكل استراتيجي للإنتعاش، ستكون لدى اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي تداعيات إيجابية على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسع. ومن خلال بناء اقتصادات أقوى، يُمكن للمنطقة أن تشهد توسّعاً من تدفقات التحويلات الخارجية البالغة حالياً 100 مليار دولار. من خلال ضمان ازدهارها في المستقبل، ستوفّر دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً مرساة الإستقرار والنمو للمنطقة ككل.

  • جهاد أزعور هو مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، كان وزيراً للمالية في لبنان بين 2005 و2008.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى