ديكتاتورية الإستغباء

بقلم راشد فايد*

يلفت، في هذا الزمن اللبناني الرديء، تَهافُت أهل المال والسلطة على نبذ الفساد، وإدانة الفاسدين، وكأنهم، جميعاً خرجوا اليوم من غفوة أهل الكهف فصُدِموا بما رأوا من اعتداء على المال العام، والخاص، وأذهلوا الناس بكونهم يعرفون القتيل ولا يشتبهون بقاتل، ويُميّزهم أنهم برعوا، فجأة، في تعرية الإدارة العامة وفضح مثالبها، كأنها لم تتورّم على أياديهم، ويزهر تهالكها بأزلامهم.

كلهم يريد “إنقاذ الوطن” لأن “لا مستقبل للوطن مع الفساد”، والطريف، مثلاً، أن الوزير “المُستعجِل” جبران باسيل ادّعى، الأحد الفائت، أنه يتنكّب مهمّة إنقاذ الوطن، وأطلق التفتيش عن “تحصين الإنقاذ” قبل أن يوجد، واختلق عدواً هو مَن لا يتحالف معه في هذه المهمة مجهولة الدرب.

ليس باسيل وحيدَ زمانه في الإيحاء بالإغتسال من كل أدران الحياة، وكأنه وُلِدَ للتوّ، وصحيفته طاهرة من أي شائبة. فالحياة العامة مُكتظّة بهذا النموذج من السياسيين: فلا هم ارتشفوا سيولة المال العام، ولا لامسوا خطوط كهرباء لبنان، ولا تمسّكوا ب”فاطمة غلّ” وشقيقاتها، ولا رفضوا العروض شبه المجانية لإنارة لبنان، ولا أقاموا سدّ المسيلحة الكارثي، ولا تسلّلوا إلى جوار نهر الكلب التاريخي.

اللائحة تطول، ويعرف الفاسدون بعضهم بعضاً، واللبنانيون يعرفونهم، ويسمّونهم ويسمّون الجيرة والحي… لكن المعنيين يصرّون على أنهم رُؤيويون يعرفون مصلحة البلاد، ويتبصّرون بافضل الدروب إلى مستقبل زاهر، وهم يريدون من اللبنانيين النظر إلى الأمام، لا إلى الخلف، للتعمية على ماضٍ، إن لم يكونوا شركاء فيه، فهم متواطئون بالصمت عليه، والتغاضي عنه.

مشكلة اللبنانيين أنهم قصيرو الذاكرة، وهذه متكأ أهل الفساد لاستغبائهم، يرفدها انسياقهم الأعمى وراء الزعيم، فيُنافسون غطاءه الديني في تمرير النهب الوطني العام الذي يتشارك فيه مع خصومه، كما مع الحلفاء. والإستغباء سلاحٌ قديم في ترسانة الأنظمة الديكتاتورية البائدة، تسند البطش والنار. أما في لبنان اليوم فهي رياضة يومية تُمارسها الطبقة السياسية، أو على الأقل أكثرها، فتجعل من انجازات “الطائف”خيبة، ومن  فساد الوعود إنجازاً، ومن النهب مجداً.

كل اللبنانيين يسمعون بسري لانكا، وهي كانت تُعرف، حتى الثلث الأخير من القرن الماضي بـ”سيلان” وقبل ذلك، سنة 851 م عرفها الرحالة المسلم سليمان السيرافي باسم سرنديب. وبحسب السيرافي، “إذا مات الملك في بلاد سرنديب صُيّر على عجلة توضع عليها قبة مُكلّلة، ويوضع الملك على تلك العجلة، ويطاف به على المدينة كلها يجره عبيده ورأسه مكشوف لمَن يراه، وشعره ينجر على تراب الأرض بينما امرأة بيدها مكنسة تحثو (تهيل) التراب على رأسه”.

وبينما المرأة تفعل ذلك تُنادي: “أيها الناس، هذا ملككم عاش في مُلكِه فارحاً قادراً كذا سنة، وها هو قد مات وفتح يده بما معه بما لا يملك من مُلكه شيئاً، ولا يدفع عن جسمه أذى، ففكروا في ما أنتم إليه صائرون، وإليه راجعون”.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fayed@annahar.com.lb
  • يُنشَر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى