كيف ساعدت الرَقمَنة دول الخليج العربي على مواجهة “كوفيد-19”

منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن، إستثمرت دول الخليج العربية بشكل كبير في التكنولوجيا الرقمية حيث استطاعت بناء بنى تحتية وسن التشريعات المناسبة لها، الأمر الذي أعطى ثماره الآن في مواجهة جائحة فيروس “كوفيد-19”.

التكنولوجيا في زمن كورونا: كيف نسخّرها؟

 

بقلم محمد سليمان*

في حين أن جائحة “كوفيد-19” وأسعار النفط التي انخفضت بشكل قياسي تُعطّلان السياسات الإقتصادية في بلدان الخليج، فقد أظهر الوباء مرونة المنطقة التكنولوجية. منذ العام 2010، شهدت دول الخليج العربية اتجاهاً تصاعدياً لتدفق البيانات والمعلومات ومعدلات عالية تاريخية من اختراق وسائل التواصل الإجتماعي والهواتف الذكية. في الوقت نفسه، كانت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي – لا سيما حكومات الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والمملكة العربية السعودية – توجّه موارد هائلة نحو رَقمَنة بنيتها التحتية من خلال إنشاء المؤسسات المطلوبة، وتعديل التشريعات، والشراكة مع مؤسسات “التكنولوجيا العالمية الكبيرة” وبناء رأس المال البشري المحلي. لقد كان وباء “كوفيد-19” بالتأكيد أكبر اختبار للبنية التحتية الرقمية في الخليج حتى الآن، ولكن المنطقة أثبتت أنها تتمتع بمرونة رَقمية هائلة.

دولة الإمارات العربية المتحدة

فاجأ الوباء العالم وتسبّب في اضطراب كبير، لا سيما في أثناء مرحلة التحوّل والإنتقال إلى العمل عن بُعد. جنت الإمارات العربية المتحدة فوائد خططها الطويلة المدى مثل استراتيجية الإبتكار الوطنية (والتي طُوّرت في العام 2018 إلى الاستراتيجية الوطنية للإبتكار المتقدم)، واستراتيجية الإمارات للذكاء الإصطناعي 2031، واستراتيجية الإمارات للتعاملات الرقمية “بلوك تشين” (Blockchain) 2021، والتي أرست جميعها الأساس لاستجابة “كوفيد-19” الرقمية للدولة. كان الإنتقال إلى العمل عن بُعد بالنسبة إلى التعليم والأعمال التجارية والمصرفية والحكومية سريعاً وفعّالاً ومَرِناً.

على سبيل المثال، أنشأت استراتيجية دبي للمعاملات اللاورقية هوية وطنية رقمية لـ300,000 مستخدم مسجل – شملت المواطنين والمقيمين والزوار – ومنحت كل واحد حساباً يُمكنه من خلاله الوصول إلى 5000 خدمة حكومية وخاصة على مستوى الدولة. كما مكّن النظام من استخدام التوقيعات الرقمية للوثائق والمعاملات، وكذلك القدرة على طلب البيانات ومشاركتها مع مزوّدي الخدمة رقمياً.

ولعبت التكنولوجيا دوراً أكثر أهمية في الإستجابة الصحّية. لقد طورت وزارة الصحة الإماراتية تطبيق “تتبع كوفيد” (TraceCovid) لتعقّب الأفراد الذين كانوا على اتصال وثيق بأشخاص تم تشخيصهم لاحقًا ب”كوفيد-19″. بالإضافة إلى ذلك، لدى شرطة دبي نظام مراقبة حديث يسمى “عيون”، والذي يراقب سكان الإمارة البالغ عددهم 3.3 ملايين نسمة. مع وجود شبكة ضخمة من الكاميرات في المدينة، يُستخدَم “عيون” للتعرف على الوجه والصوت ولوحة الترخيص لجمع البيانات، ويُغذّي المعلومات التي تمّ جمعها في قاعدة بيانات حكومية مشتركة للإحالة المرجعية. لمواجهة الوباء، يتم استخدام قاعدة البيانات والشبكة هذه لفرض قواعد الإغلاق.

تشتهر دولة الإمارات بمبدأ سيادة بياناتها، الذي تم تطبيقه بشكل خاص في العام 2013 عندما منعت الحكومة الوصول إلى خدمات بروتوكول الصوت عبر الإنترنت (VoIP)، بما في ذلك “سكايب” (Skype). لمواجهة التداعيات الاقتصادية من “كوفيد-19” ومساعدة الشركات على التحوّل والإنتقال إلى العمل عن بُعد، رفعت الدولة الحظر المفروض على خدمات (VoIP)، وكذلك على تطبيقَي مؤتمرات الفيديو الشهيرتين “تيمز” (Teams) و”زوم” (Zoom). ومع ذلك، هناك شكوك جدّية حول ما إذا كانت الإمارات العربية المتحدة ستستمر في السماح بخدمات (VoIP) بعد العودة المُتَوَقَّعة إلى بيئة العمل التي كانت سائدة ما قبل “كوفيد-19”. مما لا شك فيه، أن البلاد ستخرج من الأزمة أكثر ثقة في أنظمتها الرقمية وقدرتها على تحمل جائحة عالمية.

البحرين

بفضل استثمارها المؤسّسي المُستمرّ في البنية التحتية التكنولوجية والأطر القانونية، نمت البحرين – على الرغم من صغر حجمها وعدد سكانها – بشكل مُطرد لتصبح مركزاً للتكنولوجيا. للتنافس مع محاور تكنولوجية إقليمية أخرى مثل دولة الإمارات، تُقدّم البحرين تكاليف تشغيل أقل بنسبة 30-40 في المئة، بالإضافة إلى موقعها المركزي في الخليج ووجود عدد كبير من الخبراء التقنيين. ومع ذلك، إكتسبت المملكة مكانتها كمركز مرغوب فيه لعمالقة التكنولوجيا العالمية بسبب بيئتها التنظيمية، والتي كانت نتاج عقود من الإصلاحات: قوانين حماية البيانات، وقانون الإفلاس، والسماح بالملكية الأجنبية الكاملة في معظم الصناعات والقطاعات.

تُعتَبَر البحرين رائدة إقليمياً في البنية التحتية الرقمية، فضلاً عن كونها من أوائل الدول التي أدخلت شبكة الجيل الخامس (5G) على مستوى الدولة. وكنتيجة مباشرة لجهود المنامة، أطلقت شركة “أمازون” لخدمات الويب أول مركز سحابي (cloud) لها في الشرق الأوسط في البحرين في العام 2019، مما أضاف إلى القائمة المُتنامية من الخيارات السحابية للشركات في المنطقة.

عندما أجبرت جائحة “كوفيد-19” كلاً من الحكومة والقطاع الخاص على التحوّل إلى العمل عن بُعد، ضمنت البنية التحتية الرقمية في البحرين إنتقالاً سريعاً ومَرِناً. كما استخدمت المملكة قدراتها الرقمية للتأثير في تتبع حالات “كوفيد-19”. أطلقت الحكومة الإلكترونية في البحرين تطبيق تتبع الاتصال يسمى “كن حذراً” (BeAware)، والذي يشمل الأفراد المُصابين الذين يرتدون أساور تتبع “جي بي أس” (GPS)، والتي تُبلّغ محطات المراقبة الحكومية بأي حركة خارج المناطق المُحدَّدة. قد تطلب وزارة الصحة بشكل عشوائي صوراً من أفراد يعزلون أنفسهم، والذين يجب عليهم إرسال صورة تُثبت أنهم يرتدون السوار.

ويستخدم القطاع الخاص البنية التحتية القوية للبحرين للعب دور رئيس في مواجهة التداعيات الإقتصادية للوباء أيضاً. على سبيل المثال، ستستخدم “أم في سي غلوبال” (MVC Global) و”كوكس لوجيستيكس” (Cox Logistics) تقنية التعاملات الرقمية “بلوك تشين” (blockchain) والذكاء الإصطناعي للمساعدة على التوزيع الفعّال للأغذية والأدوية في المملكة وبقية أسواق دول مجلس التعاون الخليجي. وقد خلقت الإصلاحات والاستثمارات طويلة الأجل في البحرين مرونة رقمية للحكومة للإشراف على التحوّل والإنتقال إلى العمل عن بُعد ، في حين كان لدى القطاع الخاص مساحة للإختبار ونشر حلوله.

المملكة العربية السعودية

أثمرت إستثمارات المملكة العربية السعودية في مجال التكنولوجيا في مكافحتها للوباء. تمتلك المملكة أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط وأكبر عدد من السكان في شبه الجزيرة العربية، لكنها كانت مُتخلّفة عن نظيراتها الخليجية في التطور التكنولوجي. مع “رؤية 2030” ، بدأت الرياض استراتيجية التحوّل الوطني للإنتقال من إقتصاد يعتمِدُ على النفط إلى اقتصادٍ يعتمد على التكنولوجيا الرقمية. على هذا الأساس، أدخلت التشريعات والأطر، وأنشأت المؤسسات، وشكلت شراكات دولية. وقد ركّزت المملكة أيضاً على تقديم حلول رقمية في القطاعات ذات الأولوية – العدالة والصحة والكهرباء والثقافة والسياحة – بهدف واضح هو أن تصبح رائدة التكنولوجيا في المنطقة.

أدت الأولوية السعودية للتحوّل الرقمي إلى النشر التدريجي لشبكات الجيل الخامس (G5) التجارية في العام 2019 في أكثر من 20 مدينة. كما ساعد إطلاق الجيل الخامس على تعزيز أوراق الاعتماد التقنية للمملكة بين المستثمرين الذين يحرصون على الإستثمار في الصناعات التي ستستفيد من إمكانات الجيل الخامس، مثل التكنولوجيا والتمويل والتعليم والقطاع العام. بالإضافة إلى ذلك، قدّمت الحكومة مجموعة من الأدوات الذكية التي أثبتت فعاليتها واكتسبت ثقة الجمهور. على سبيل المثال، قامت وزارة الصحة بتحديث تطبيقها “موعد” (Mawid)، الذي يُوجّه المستخدمين في العزلة الذاتية وزيارات المستشفيات، في حين تستخدم وزارة التربية والتعليم بوابة التعليم الوطنية لتوفير المواد التعليمية والأدوات الرقمية للطلاب في المنازل.

تزامن هذا الوباء مع الرئاسة السعودية لمنتدى مجموعة العشرين في العام 2020. وقد أتاح هذا للرياض فرصة للقيادة بالقدوة من خلال تنفيذ إغلاق مبكر، وتعليق الحج والعمرة، واستخدام موقعها كرئيس لتنسيق الاستجابة العالمية لـ”كوفيد-19″ على الجبهات المختلفة بخاصة في القطاع الرقمي. وقد دعت المملكة إلى الاستجابة الرقمية والتعافي، وعززت التعاون مع المنظمات الدولية والقطاع الخاص، مما يمثل تحوّلاً في الأولويات السعودية. وضعت “رؤية 2030” الأساس للبنية التحتية الرقمية التي زادت من مرونة المملكة الرقمية في مواجهة الوباء، وبفضل قيادتها لمجموعة العشرين، أصبحت المملكة العربية السعودية الآن في موقع الريادة التقنية في المنطقة.

إستنتاج

في حين أن دول مجلس التعاون الخليجي لم تتحوّل بعد من اقتصادات تعتمد على النفط إلى اقتصادات متنوعة بالكامل، إلّا أن الإصلاحات التي تم تنفيذها والإستثمارات المؤسسية التي تم إجراؤها عبر منطقة الخليج خلال العقد المُنتهي مهّدت الطريق للاستجابة الرقمية القوية للمنطقة للوباء وتداعياته.

لم تعُزز دولة الإمارات العربية المتحدة مكانتها كمركز تقني إقليمي فحسب، بل أثبتت أيضاً أن الدولة هي رائدة رقمية عالمية. وبرزت البحرين، على الرغم من كونها أصغر دولة في الخليج، كواحدة من أكثر الحكومات ذكاءً رقمياً بدعم قوي من شركات التكنولوجيا المحلية والدولية. كما استفادت المملكة العربية السعودية، التي تخلّفت رقمياً عن مثيلاتها الخليجية على الرغم من اقتصادها الواسع، من “رؤية 2030” من خلال إنشاء بنية تحتية رقمية مرنة صمدت أمام الأزمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن رئاسة المملكة لمجموعة العشرين تضع الرياض في موقع داعم قوي لدور التكنولوجيا في مكافحة الوباء.

لذا، من الأفضل لدول أخرى في الشرق الأوسط أن تتعلم من الاستثمارات الرقمية في الخليج عند الإستعداد للمستقبل.

  • محمد سليمان هو باحث غير مقيم في برنامج الإنترنت لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن. يُركّز عمله على تقاطع التكنولوجيا والجغرافيا السياسية والأعمال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إن وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى