هل صندوق النقد الدولي هو البَلسَم  أم العَلقَم لأزمة لبنان المالية؟

مع بدء المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي من أجل إيجاد حلّ للأزمة المالية والإقتصادية التي تعصف ببلد الأرز، هناك معارضة من قبل بعض الأفرقاء لهذه المفاوضات، فيما يضع فريق آخر شروطاً لهذا التعاون، على الرغم من أن لبنان ليست لديه القدرة على الإنتظار أو لرفض شروط المؤسسة المالية الدولية.

الرئيس حسّان دياب والوزير غازي وزني: مهمة صعبة أمامهما مع صندوق النقد الدولي؟

 

بقلم يوسف صَدَقة*

وقّع رئيس مجلس الوزراء اللبناني الدكتور حسان دياب، ووزير المال غازي وزني في 1/5/2020، طلباً رسمياً، لحصول لبنان على برنامج تمويل من صندوق النقد الدولي، بعد إقرار الحكومة الخطة الإقتصادية، والتي تضمّنت ضرورة حصول لبنان على دعمٍ دولي بقيمة 10 مليارات دولار إبتداءً من العام 2020 حتى العام 2024.

تجدر الإشارة إلى أن الطلب سيُرفَع إلى المجلس التنفيذي للصندوق والذي سيُقرر في ضوئه، برنامجاً تمويلياً للبنان لمدة تتراوح بين 3 و5 سنوات، مُقابل تعهّدات إصلاحية ستُنفذها الدولة اللبنانية. وكان صندوق النقد الدولي قدم مساعدة تقنيّة للحكومة خلال وضعها الخطة الإنقاذية تشمل آلية التخلص من التهرّب الضريبي، والجمارك، والكهرباء، وقوانين مكافحة الفساد …

الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي اللبناني

توّقع صندوق النقد  الدولي مؤشرات سلبية للعامين 2019 و2020، منها انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.5 في المئة في العام 2019 وبنسبة 12 في المئة في العام 2020. وتوقّع أيضاً أن يصل معدل التضخم في لبنان في العام 2020 إلى أكثر من 17%، كما أفاد تقرير الصندوق بأن الديون السيادية قد وصلت إلى حدود 150% من الناتج المحلي الإجمالي، وأن الأزمة النقدية قد تعمّقت منذ العام 1997، لدى ربط العملة  اللبنانية بالدولار.

وقد أفاد الدكتور جهاد أزعور، وزير المالية الأسبق في لبنان ومدير إدارة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في صندوق النقد لصحيفة “النهار” اللبنانية في 1/5/2020 أن “الصندوق يُقدّم استشارة تقنية دائمة للبنان، وأن الخطة الإصلاحية للحكومة هي الأساس لاعتماد أي مفاوضات مع الصندوق، وإن أي خطة إقتصادية ناجحة قد تُعيد بناء الثقة بالإقتصاد اللبناني، الذي يشكو من اختلال بنيوي أوصل البلد إلى الأزمة المالية والنقدية الحالية”. وأشار إلى أن اللجوء إلى الصندوق قد يُشكل أساساً مهماً لإعادة الثقة إلى الدائنين والمستثمرين الجدد، الذي يحتاج إليهم لبنان. واعتبر أن رقابة الصندوق هي ضرورية لحسن سير الأمور ومراقبة التنفيذ.

لمحة عن صندوق النقد الدولي

أُنشئ الصندوق في العام 1944، في مؤتمر “بريتون وودز” (Bretton woods)  في الولايات المتحدة الذي ضمّ 44 دولةً في ذلك الحين، حيث قررت هذه البلدان مُجتمعة “إيجاد إطار دولي للتعاون الإقتصادي” يهدف إلى تشجيع الإستقرار النقدي والتعاون في مجال النقد، وإعطاء القروض للدول التي تُعاني من صعوبات مالية.

وقد علقت الولايات المتحدة علاقة وربط الدولار بالذهب في ما بعد، وبالتحديد في 15/8/1971، وأصبحت بالتالي خارج إتفاقية “بريتون وودز”، ومن آلية نظام القطع إزاء الدولار. وعندها أصبح هناك نظامٌ مرن تمّت الموافقة عليه في إتفاقات جامايكا في كانون الثاني (يناير) 1976. وعليه فإن دور الصندوق  في ضمان إستمرار العملة بنسبة 1% إنتهى وأضحى من الماضي.

وقد تطور دور صندوق النقد في العام 1976 حيث تحوّل إلى دعم البلدان التي تُعاني من صعوبات مالية وإعطائها الملاءة اللازمة (Solvability). ويهدف الدعم أيضاً إلى منع الإنهيار المالي والنقدي في بعض الدول في مواجهة النظام المالي الدولي.

تجدر الإشارة إلى أن الصندوق يمنح القروض من مساهمات الدول الأعضاء فيه، مع اشتراط إصلاحات هيكلية، تؤمّن استرداد الدين في المستقبل.

من ناحية أخرى تطورت مهمات صندوق النقد إلى إدارة الأزمات المالية والنقدية للدول، حيث يؤمن القروض للبلدان التي تُعاني من خطر يهدد نظامها النقدي، ويساعد الدول التي لا تستطيع تسديد مستحقاتها الدولية، أو تواجه عجزاً في استيراد المواد الأساسية إزاء النقص في العملة الصعبة. عند ذلك يتدخل صندوق النقد لمنح القروض مع اشتراط إصلاحات تحدّ من المصاريف العامة الحكومية غير المُجدية …

إستراتيجية صندوق النقد بعد العام 2008

إعتمد صندوق النقد إستراتيجية عملية بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008، بعد إنهيار بعض المصارف الأميركية ومنها “ليمان بروذرز” (Lehman brothers)، تقوم على تخفيض الشروط لمنح القروض، فلم يعد المطلوب منح القروض لتخفيف العجز في الموازنة، إنما تطورت وظيفة الصندوق لمنح القروض إلى ميادين محددة، كإعادة إنعاش الوضع الإقتصادي. على صعيد آخر طوّر الصندوق آلية مراقبة النظام المالي الدولي عبر إستشراف الأزمات الإقتصادية والمالية، وفي العام 2012 طوّر الصندوق إستراتيجية تقوم على تحليل المخاطر والربط بين النمو الإقتصادي والإستقرار المالي.

وقد قام الصندوق بمبادرات عدة لمراقبة القطاع المصرفي والإقتصادي في بعض الدول ودراسة المخاطر والتحذير منها.

نماذج من مساعدات صندوق النقد لبعض الدول

منح الصندوق في العام 2009، في إطار ” خط ائتمان معياري” (Modular line of credit)، قروضاً للدول ذات الإقتصاد الثابت، والتي تواجه أزمة طارئة ككولومبيا والمكسيك وبولندا، وصلت إلى 100 مليار دولار بشروط مُيسِّرة يتيح لها الإستدانة من الأسواق الدولية.

المكســــــيك: أدى سقوط أسعار البترول في العام 1982 وانخفاض الواردات الضريبية إلى توقف المكسيك عن دفع ديونها في 22/8/1982 إلى المصارف الأجنبية، وقد منح صندوق النقد الدولي المكسيك ملياري دولار بصورة طارئة. وقد نفّذت الحكومة إصلاحات ضرورية: تخفيض النفقات العامة وتخفيض العملة … مما أنقذ المصارف من الإفلاس. وفي العام 1944، تعرضت لأزمة إقتصادية حادة، تم على أثرها تخفيض البيزو، مما أدى إلى هروب الرساميل الأجنبية. وقد تدخل الصندوق في حينه ومنحها قرضاً بـ 18 مليار دولار.

دول شرق أسيا: أدّت المُضاربات في سوق القطع إلى انهيار العملة في تايلندا، ما أدّى إلى انهيار الأسواق المالية في كلٍّ من الفيليبين، وماليزيا، وأندونيسيا، وسنغافورة، وهونغ كونغ، وكوريا الجنوبية. وقد تدخل صندوق النقد لدعم تايلندا، وكوريا الجنوبية، وأندونيسيا، والفليبين بقروض بلغت 37 مليار دولار.

روســـيا: منح الصندوق في العام 1998 روسيا قرضاً بـ22.6 مليار دولار على أثر أزمة إقتصادية حادة وانهيار الروبل الروسي.

البرازيل: تأثرت البرازيل بانهيار دور شرق أسيا فانهارت إحتياطات الدولة من العملة الصعبة. وقد منح الصندوق البرازيل 41.5 مليار دولار في كانون الأول (ديسمبر) 1998.

تركيــــا: قدّم الصندوق في العام 2000، قرضاً ب11 مليار دولار على أثر أزمة إقتصادية حادة.

الأرجنتين: أدى ارتفاع الدولار في العام 1998 إلى ضرب هيكلية الإقتصاد الأرجنتيني، فأمن صندوق النقد مساعدة بـ 11 مليار دولار.

اليونــان: قدّم الصندوق مساعدة لليونان بـ30 مليار دولار، في إطار المساعدات التي شارك فيها كلٌّ من البنك الأوربي والمفوضية الأوروبية، والــــذي بلـــغ الإجمالــــي 110 مليــــارات دولار، على أثـــر انهيار النظـــام المالــــي والنقدي لليونــــان، في العامين 2010 و2011.

البرتغال: في العام 2011 وصلت الديون الداخلية والخارجية إلى 93% من قيمة الدخل الوطني الإجمالي. وقد دعم الصندوق البرتغال بـ26 مليار دولار من الفترة 2011 إلى 2014. بينما دفع البنك الأوروبي والمفوضية الأوروبية 52 مليار دولار …

الآليات الجديدة المعتمدة من صندوق النقد

إتخذ مجلس إدارة صندوق النقد الدولي (24 عضواً)، والذي يُنفذ السياسات العامة للصندوق الذي يُمثل الدول الأعضاء (198 بلداً)، قراراً برفع قيمة القروض الممنوحة من الصندوق إلى 1 تريليون دولار. كما قرر منح قروض بـصفر في المئة فائدة للدول ذات الدخل المحدود. كما اعتمد آلية جديدة (SLL Short liquidity line) لمساعدة الدول التي تعاني من فيروس “كوفيد-19” ومن أزمات إقتصادية خانقة.

كما أعلن المجلس التنقيذي للصندوق في العام 2020 عن برنامج تمويل جديد بقيمة 100 مليار دولار، وإعطاء تسهيلات للتمويل الطارئ للبلدان المُنخفضة الدخل، وبلدان الأسواق الصاعدة. كما خصّص الصندوق 10 مليارات دولار من هذا المبلغ بفائدة صفرية في إطار التسهيل الإئتماني الفوري. وقد إستفادت كل من تونس والإردن من هذه الآليات. وقد تمثل الشرط الأساس للصندوق بالقدرة على التسديد للمؤسسات الدولية.

لبنان وصندوق النقد

إرتفعت أصواتٌ سياسية وحزبية وثقافية مُعارِضة للجوء الحكومة اللبنانية إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي. منها مَن حذّر من الهيمنة الأميركية على الصندوق، والإملاءات التي قد يطلبها تنفيذاً للهيمنة الأميركية ومنها مَن حذّر من جبل لبنان خاضعاً من الناحية السياسية والإقتصادية للصندوق. ويبدو أن الحملة على الصندوق قد انطلقت من أفكارٍ مُسبَقة أو من منطلق إيديولوجي يتلاءم مع النظرة اليسارية التقليدية إلى المنظمات الدولية والتي تعبترها أداة للقوى الإستعمارية التي تهدف إلى الهيمنة على الدول النامية. وهناك فئة مُعارضة تفتقد إلى الثقافة الإقتصادية وتُقارب الصندوق بالسلبيات، وتتناسى أن عشرات الدول من الدول المتوسطة والنامية
قد نالت قروضاً من الصندوق والذي إنتشلها من الإنهيار المالي والنقدي.

تجدر الإشارة إلى أن واشنطن تتمتع بنسبة 16.8% من أصوات المجلس التنفيذي لصندوق النقد، علماً أن الموافقة على طلب لبنان تتطلب 50% من أصوات المجلس التنفيذي، وهذا ما لا يتناسب عن مقولة الهيمنة الأميركية المُطلقة على صندوق النقد.

إزاء الإنهيار المالي والنقدي وتدهور الوضع الإقتصادي في لبنان، لم يبقَ للبنان من خشبة خلاص إلّا صندوق النقد، وقد سبق واستعرضنا في هذا المقال، مساعدات صندوق النقد لعدد كبير من الدول، فالحالة اللبنانية ليست حالة فردية. ولا أعتقد أنه من داعٍ للهلع من التوجه إلى الصندوق، فهناك مسار تفاوضي للحكومة اللبنانية مع الصندوق، يتمثل بمساعدات مالية وقروض مقابل تنفيذ عملية إصلاحات في قطاعات عدة منها الكهرباء، والإتصالات، والحوكَمة، لتخفيض مصاريف الدولة …

ستكون الدفعات من الصندوق مشروطة بإجراء الإصلاحات الهيكلية ومراجعة دورية لخبراء الصندوق عن تنفيذ الحكومة لخطة الإصلاحات …

وفي تقديرنا بأن المطلوب، أن تستعين الحكومة اللبنانية بالإضافة إلى وزارة المالية ببعض الخبراء الماليين المختصين والذين لهم خبرة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، لأن الكفاءة في التفاوض تكون مدخلاً إلى النجاح والحد من الشروط التقليدية لصندوق النقد وهي تحرير سعر الصرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار.

المقبول والمرفوض من صندوق النقد

إن المتطلبات التي يفرضها صندوق النقد أصبحت معروفة، وليس صحيحاً إن إدارة الصندوق تفرض  قسراً، إصلاحات قد تؤدي إلى إفقار البلد، بل ما يمكن للدولة أن تتحمله وفقاً لنظامها الإقتصادي والنقدي.

إن الحَوكمة وتخفيض نفقات الدولة غير المُجدية وإصلاح المرافق الحيوية منها الكهرباء، المياه، وإلغاء الوظائف الوهمية، والمؤسسات غير المجدية تمثل مطالب الصندوق، وهي أيضاً مطالب على الدولة  أن تقوم بتنفيذها بغض النظر عن شروط صندوق النقد.

أما ما نتحفّظ عنه هو رفض تحرير سعر صرف الليرة الذي يشترطه صندوق النقد على بعض الدول ومنها لبنان. إذ أن تحرير سعر صرف الليرة الذي يشترطه الصندوق قد ظهرت نتائجه في المرحلة الأخيرة لجنّة الفلتان النقدي والمضاربات على الليرة في ظل غياب الضوابط اللازمة ولجهة فقدان القدرة الشرائية للمداخيل وارتفاع الأسعار الناجم عن إرتفاع سعر القطع، إذ أن حوالي 85% من الإستهلاك السلعي المحلي يتم إستيراده من الخارج بالدولار الأميركي. كما وأظهرت المرحلة السابقة التأثير السلبي لارتفاع سعر القطع منذ العام 1992 ومن ثم تثبيته على مستوى 1500 ل.ل. للدولار أي على مستوى يفوق سعره عند انتهاء الحرب اللبنانية (500 ل.ل. للدولار) رغم حال الدمار الشامل وغياب رؤوس الأموال ودمار البنى التحتية وشلل مقومات الإقتصاد والدولة على حد سواء في حينه. وقد أدى تثبيته على هذا المستوى المرتفع منذ العام 1999 إلى ضرب بنية النسيج الصناعي والقطاعات الإنتاجية والخدماتية والزراعية، إذ بات المنتج المحلي يتحمل أعباء إضافية ناجمة عن إرتفاع سعر الصرف نتيجة ارتفاع كلفة المواد الأولية المستوردة بالأغلب من الخارج بالدولار، وكذلك بسبب إرتفاع الأجور إثر المطالبات لفقدانها القيمة الشرائية بفعل ارتفاع القطع والتضخم في الأسعار، إضافة إلى ارتفاع كلفة رأس المال بفعل ارتفاع الفوائد المرافق لإرتفاع القطع، وكذلك إرتفاع كلفة الكهرباء نتيجة إرتفاع أسعار المشتقات النفطية المُسعّرة بالدولار، الأمر الذي أدّى إلى إرتفاع كلفة الإنتاج المحلي وضرب القدرة التنافسية للمنتج المحلي في الأسواق المحلية والعالمية، وإلى محو الأثر الإيجابي لإرتفاع سعر القطع على تدني أسعار السلع المحلية بالعملات الأجنبية في الأسواق العالمية. وهذا ما يؤكد عليه خبراء إقتصاديون من مقاربة أرقام التجارة الخارجية مع تحرك أسعار الصرف منذ ستينات القرن الفائت في لبنان، وكذلك في العديد من الدول التي تعتمد بشكل ملحوظ على استيراد المواد الأولية من الخارج، الأمر الذي يُتيح باب التفاوض مع صندوق النقد الدولي بموضوع تحرير سعر القطع إذ أن الوقائع والأرقام التاريخية تُظهر مآثره السلبية على المؤسسات الصناعية والتجارية والزراعية، وكذلك على فقدان القيمة الشرائية لليرة، وبالتالي على الوضع المعيشي لكل شرائح الدخل القومي.

في المحصلة النهائية ليست للبنان خيارات أخرى غير صندوق النقد إسوة بالبلدان التي تُعاني من إنهيار مالي ونقدي، وبما أن حلم إستعادة الأموال المنهوبة، هي مقاربة سوريالية في الوضع اللبناني الحاضر، وصعوبة تنفيذ أحكام رئيس الحكومة الماليزية مهاتير محمد لدى عودته الأخيرة إلى الحكم، وعدم وجود مساعدات عربية وأجنبية، فإن البلسم المتوافر حالياً للوضع اللبناني هو اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، والتعامل مع توصياته بالحكمة، والترفع، والتمسك بالمصلحة الوطنية العليا.

  • يوسف صدقة هو ديبلوماسي وسفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى