مُوَرِّخاً نَبالة آل إدّه، إميل معكرون: هُم أَشرَافُ لبنان!

بقلم الدكتور جورج كلّاس*

يُكمِلُ الدكتور إميل معكرون مشواره البحثي والتأريخي مع أقطاب لبنان ورجالاتِ السياسة، من خلال آخر إصداراته “آل إدِّه في خدمة لبنان”، الذي جَمَعَ فيهِ مَروِيَّاتٍ و أخباراً  حُلْوَةً وغيرَ معروفةٍ عن المُثلّثِ الإدَّاوي، و دَعَّمها بوثائقَ و ثوابِت، زَادَتْ مِنْ مَعرِفيَّاتنا التاريخية في حياةِ لبنانَ السياسيّة، وكَشفتْ خبايا طريفةً و مُفيدةً، في مسيرة الرئيس إميل إدّه (1883-1949) والوزير والنائب و عميد حزب “الكتلة الوطنية” ريمون إده (1913-2000) والوزير بيار إدّه (1921-1977)، من شأنِها أَنْ تُصَوِّبَ الكثيرَ من الأمور و تُسهِمَ بإعادةِ قِراءَةٍ تقويميَّةٍ هادئة لبعضِ مفاصلِ  دروبِ السياسة اللبنانية في مختلف معارِجها وتألُّقاتِها وتحَدِيَّاتها وإخفاقاتِها. وهذه مهمَّةٌ ارتضى الدكتور إميل معكرون أَنْ يُنازِلَ صِعَابَها، بِجَرأَةِ الباحثِ واحترافيَّةِ المُؤرِّخِ الواثِقِ من نَهْجِهِ التَفِكِيريِّ، وأَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَاتٍ مَعْرِفِيَّةً، تَزيدُ مَنْ سَطْعَةِ الإضاءَةِ على مَسيرَةِ السياسةِ اللبنانية ومسارِها في أكثر المحطّاتِ التاريخية حراجةً و دقَّةً في القرن العشرين.

في  هذا الكتابِ، كما في ثُلاثِيَّةِ إِصداراتِهِ: “أقطابٌ و أحداثٌ 1995” و”panaroma historique 1996″، و”رِؤساء وقضايا 2001″، يَحْرَصُ  إميل معكرون على الإلتزامِ بِمبدأِ الوفاء، الذي إِنْكَتَبَ فيهِ فَكَتَبَهُ و نَذرَ قلَمَهُ لأَنْ يَشهَدَ لِلكِبارِ ويَنتَصِرَ لِلأَوادِم ، ويُصَحِّحَ بعضَ مفاصلِ المَعمِيّاتِ التاريخية، بدليلِ ما ارتَكَزَ عليهِ في بحثه من مصادر كتابيةٍ و مراجِع و شهاداتِ مُعَاصِرينَ للمُثلَّثِ الإدَّاوي، زادتْ مِنْ قيمَةِ المَضمُونِ وأضْفَتْ عليهِ نَكهَةً مَايزَةً.

يُظْهِرُ الدكتور معكرون من خلالِ كتاباته واهتماماته في تأريخات أقطابِ السياسةِ، إندفاعِيَّةً لافِتَةً و تَفكيراً راقيّاً، وَظَّفَهما لخدمةِ “التاريخ الناعِم” الذي يُصَحِّحُ  بِهدُوءٍ ويُلْفِتُ بِرَوِيَّةٍ و يُبْرِزُ باهتمامٍ، كُلَّ ما وقعَ عليهِ من أخبارٍ و مَسموعاتٍ و مُشافَهاتٍ، فَتَقصًّى صِحَّتَها من مَصَادِرِها، وحَدَّدَ بثقَةِ العارِفِ المُدَقِّقِ مَكامِنَ الخطأِ والصَحِّ ومَنسوبيَّة كُلِّ ما كان يتُمُّ  تناقُلُهُ وتداوُلُهُ من تّأويلاتٍ وشائعاتٍ تَضليليَّة، ما صَوَّبَ الكثيرَ من الأمورِ وأعادَ تَرسيمَ الخارطةِ السياسية، وِفْقَ مَنْطِقِ الحوارِ العَيْشِيِّ بَين الجماعات والمُكَوِّناتِ اللبنانية.

حَسبُهُ إميل معكرون، المؤرّخُ الأكاديميُ المَوثوقُ والثقَة، أَنَّهُ يتعامل مع فَنِّ كِتابَةِ الملف الشخصي، ال”بروفايل”، باحترامٍ مُطلَقٍ  حِيادِيَّةٍ رفيعة بعيداً من الإصطفافاتِ الولائِيَّةِ . إِنَّهُ الوفاءُ لأقطابٍ  طَبعوا الحياةَ  اللبنانيَّةَ بِنَبَالَتِهم وشَرَفِ سلوكُهم الوطنيِّ الخالصِ والشديدِ اللبنانيَّةِ، في زَمَنٍ اختبأَ فيه كثيرونَ من أنفسِهم وأَغْمَضوا أَعيًنَهُم عن الحقِّ و صَمُّوا آذانَهم عن الحقيقة بِمختلفِ وُجوهها!

هو في كلِّ مَكتوباتِه و بحوثِهِ يُنَصِّبُ نَفسَهُ مُحاميَ دِفاعٍ  عن الكرام غبَّ الطَلَب، بِمثلِ ما يَرتديَ ثوبَ “النائِبِ العام” التاريخي، للحفاظ على الحَقِّ العام والحقيقة العامة، من دون أَنْ يَسمَحَ لنفسِه أنْ يَجلسَ على قوسِ المحكمة ويُطلِقَ أحكاماً مُخَفَّفةً أوْ مُبرَمَةً… تاركاً للناس والتاريخ وأصحاب الضمائر أَنْ يُكَوِّنوا الحُكْمَ بأنفُسِهمً و يَلفُظوه باسم لبنان.

هكذا تعامل إميل معكرون مع المُثلَّثِ الإدّاوي الذي إعتبرهم ضمير الوطن وصَنَّفهُم من طَبَقَةِ “أَشرافِ لبنان” الباقية صورته في مُخَيَّلةِ الأخيارِ الطَّيبين، الذين يرسمون في قراراتهم صُوُراً تُشبِهُ هاماتِ الإدّاويين الثلاثة و تُقاربُ قاماتهم الكبيرة.

وفي حديثه عن “الظاهرة الإدّيّه” يحرص الدكتور معكرون، على تَظهيرِ إنحيازه الوجداني الى خُلُقياتِهم الرفيعة التي طبعتَ مجرِيَّاتِ الطقوس السياسية و تَحَوُّلاتِها، و يؤكِّدُ من موقعه البحثي والأكاديمي والوطني، أن  المثَلَ الإدَّاويِ يجبُ أنَ يبقى المثالَ لكلِّ مُشتَغِلٍ بالشأنِ العام و مُهتَمٍ بقضايا الوطن.

وهذا أبرَزَه  بِدِقّةِ العارِف من خلال توصيفه لِزَمَنِيَّةِ الرئيس إميل إدّه، و ما رافق عهدَهُ واعترضَ نضالهُ من عقباتِ  خارجية وداخلية، حاولَتْ عرقلةَ سَعْيَهُ لإرساءِ قواعدَ استقلاليَّةٍ سياسية سيادية بعيداً من التبعيّات والإرتهانات. و هو لَمْ يتوانَ عن إطلاقِ التوصيفاتِ الوَجديَّةِ  التي تليق بِريمون إدّه  ضمير لبنان العميد العنيد، وتصنيفِهِ من بين رجالات الدولة الإستثنائيين، بشهادة عارفيه ومُعاصريه، وأصدقائه ومُنافسيه، مُعتبراً أن العميد لم تكن له عداواتٌ ، بل منافسون وأخصامٌ، كلّهم يلتقون على حبِّ الوطن على طريقته… بَعضُهمُ  أَنْفاً وعِناداً، و بَعضٌ بِخَفضَةِ رَأسٍ واِنحِناءَةٍ مُستدامَة، كادَ أَنْ ينحني معها الوطن ويفقدَ بعض عنفوانه، لَولا وَقفاتِ الجَرأة المجنونةِ التي اتّصفَتْ بها نُخبَةٌ من القياداتِ اللبنانية التي حرص معكرون الإلفاتَ الى دورها وتقدير عطاءاتها والإشادة بمآثرها.

وفي عُجَالَةٍ تذكيرية بالوزبر والنائب الراحل بيار، ثالث الإدّاويين، عمد الباحث الى تقميشاتٍ جَمعها من كُتُبٍ ودوريات ومروياتٍ، للإعتماد عليها في تقويم دور بيار إده في الإدارة والوزارة والنيابة وتأسيسه لجمعية المصارف والمجلس الإقتصادي الإجتماعي، الى دورٍ واسع له في دعم الإقتصاد اللبناني ورَفدِهِ بالدعَم المادي، اضافة الى شهادات وأخبار يعرفها الكاتب شخصياً عن الرجل الذي ترك بصماته التأسيسية والرقابية ونظريته التطويرية للإدارة المالية للبنان.

لقدَ شهد الدكتور إميل، و أَرَّخَ لآل إدّه، بعقله وقلبه، ونجح بأن يضع قاعِدَةَ تَمَثُّلٍ وتماثلٍ لبيْتٍ سياسي صَرَفَ على السياسة، و لَمْ تَصرِفْ السياسةُ عليه.

  • الدكتور جورج كلّاس هو باحث أكاديمي لبناني. كان عميداً لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى