تركيا في مأزق!

فيما تعمل تركيا على مواجهة جائحة “كوفيد-19” وتداعياتها المختلفة، تدفع أنقرة باتجاه تطبيق سياسات إشكالية فيما يصطدم البقاء السياسي لرئيسها رجب طيب أردوغان بالضرورات الإقتصادية.

رجب طيب أردوغان: ديكتاتور في نظام ديموقراطي!

 

بقلم مارك بيريني*

تعمل تركيا على مكافحة جائحة “كوفيد- 19” وتساعد بلداناً أخرى في ذلك. ولكن الأزمة الصحّية كشفت النقاب عن مكامن الهشاشة التي تعاني منها البلاد بسبب خياراتها السياسية والإقتصادية وسياساتها الخارجية. ولن يكون سهلاً الإبقاء على هذه الخيارات في خضم ركود عالمي.

من وجهة نظر صحّية، وبعيداً من المشاحنات السياسية، يبدو أن المنظومة الصحّية التركية تتعامل جيداً مع الجائحة. وتُقدّم أنقرة أيضاً المساعدة لعددٍ من البلدان، بدءاً من إيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وصولاً إلى بلدان في غرب البلقان وفي أفريقيا. وقد عملت أنقرة بحرص شديد على تسليم شحنة من ست منصات نقّالة محمّلة بالإمدادات الطبية إلى واشنطن في 28 نيسان (أبريل)، وأرفقتها برسالة من الرئيس رجب طيب أردوغان يقول فيها للرئيس دونالد ترامب إنه “شريك موثوق وقوي للولايات المتحدة”.

أما الرسالة غير المُبطّنة فكانت أن تركيا تأمل بتجنّب العقوبات الأميركية المتوقّعة على خلفية الإتفاق الذي أبرمته مع روسيا لتسلّم صواريخ “أس-400″، وتريد الإفادة من “خطة المُبادلة” التي يُطبّقها بنك الإحتياطي الفيديرالي الأميركي في حالة البلدان الأكثر تضرراً من وباء “كوفيد -19”.

ولكن ديبلوماسية “كوفيد-19” لن تحجب الوقائع الأكثر إشكالية التي تُواجهها تركيا في شؤونها السياسية والإقتصادية والخارجية. بدايةً، تُظهر البلاد معظم المواصفات التي نراها في الأنظمة السلطوية الشاملة. تخضع حرية التعبير والإعلام لقيودٍ شديدة، كما أن القضاء مُسيَّس. فقادة المعارضة يتعرّضون لهجوم لفظي متواصل، لا بل لمضايقات أو حتى للإستبعاد. ويتم الإبقاء على مُعتقلي الرأي في السجون، فيما أُفرِج عن مرتكبي جرائم مُنظّمة بموجب تشريع خاص صدر على خلفية تفشّي وباء “كوفيد-19”.

وعلى الجبهة المالية، تدنّت إحتياطات المصرف المركزي التركي جدّاً وتُستخدَم لتأمين حماية مستمرة لليرة التركية على الرغم من كل العوامل المُناوئة، إنطلاقاً من السياسة النقدية المُطبَّقة راهناً. وفي الوقت عينه، ترفض أنقرة الإفادة من التسهيلات الخاصة التي يُقدّمها صندوق النقد الدولي لمواجهة تداعيات “كوفيد-19″، خصوصاً لأسباب مبدئية، على الرغم من تدنّي كلفتها وعدم ربطها بشروط كثيرة. وهذا سيجعل التعديلات اللاحقة أكثر إيلاماً.

في غضون ذلك، أظهر التدخل العسكري في شمال سوريا التباينات العميقة في الآراء مع روسيا حول سيادة سوريا ووحدة أراضيها. وكذلك تسبب التدخل التركي لمصلحة حكومة الوفاق الوطني الليبية بتشنّجات مع العديد من البلدان العربية، والأهم من ذلك أنه كان مصدراً للتوتر مع روسيا. وقد أدّت القرارات الأحادية في شرق المتوسط، مثل إعادة تعريف الحدود البحرية وعمليات التنقيب عن الغاز في المياه المُتنازَع عليها حول قبرص، إلى تدهور العلاقات مع قبرص واليونان والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وما زاد الطين بلّة أن الهجوم الذي شنّته الحكومة التركية على الحدود اليونانية في مطلع آذار (مارس) – وهو أول هجوم تشنّه دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) على دولة عضو أخرى – من خلال استخدام اللاجئين بمثابة بيادق، مُنيَ بالفشل وزاد من معاناة اللاجئين.

أخيراً، فإن قيام تركيا بنشر المنظومة الدفاعية الروسية “أس-400″، برفقة خبراء روس، شكّل اصطفافاً إلى جانب موسكو وأحدثَ اضطراباً في الهندسة الدفاعية الصاروخية لحلف الناتو. ولن تُساهم شحنة من الأقنعة الوقائية في تليين موقف الكونغرس الأميركي، فيما هو يَنظر في سُبُل الرد على هذه الخطوة.

على الصعيد النظري، ومع جرعة من الغطرسة، قد يُمكن المُحاججة بأن تركيا بلغت درجة من التنمية الإقتصادية والقوة العسكرية لم تعد تحتاج معها إلى الإنتماء حصراً إلى الحلف الغربي. وفي هذا السياق، قد يكون أمراً مشروعاً أن تبحث أنقرة عن مكانٍ لها على الساحة العالمية يكون على مسافة واحدة من جميع القوى الكبرى، من خلال اتّباع سياسة اقتصادية مُتحرِّرة من القواعد والمؤسسات السائدة. ولكن السرديات المُصطَنعة والعدائية التي تروّج لها القيادة التركية، أو الخطوات الديبلوماسية المُخَطَّط لها جيداً لا تُمثّل سياسة فعلية وذلك لسببَين:

أولاً، كي تتحوّل تركيا إلى “قوة في الوسط” وتكون في المصاف نفسه مع الصين والإتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة، عليها أن تتحلّى بضبط النفس وتمتلك سياسة خارجية مُتماسكة. فالهجوم على الحدود اليونانية بواسطة شرطة مكافحة الشغب بغية التعتيم على الضربة القوية التي سدّدتها القوات الروسية لكتيبة تركية في مدينة سراقب في محافظة إدلب السورية، لا يفضي إلى كسب الاحترام أو زرع الخوف. بل جلّ ما يفعله هو القضاء على مكانة تركيا الديبلوماسية. وينطبق الشيء نفسه على ما يُعرَف بالإتفاق مع ليبيا بشأن الحدود البحرية.

ثانياً، وبعيداً من الغطرسة، لا يمكن تجاهل المسائل الإقتصادية الأساسية. فتركيا لديها عجزٌ وتعتمد إلى حد كبير على الغرب، ولا سيما أوروبا، في تصدير السلع المُصنّعة، واستيراد التكنولوجيا، وفي احتياجاتها المالية في المدى القصير وعلى صعيد الإستثمار المباشر على السواء. وليست الصين وروسيا وبلدان الخليج بدائل من الركيزة الأوروبية بالنسبة إلى تركيا. حتى عندما تُبدي قطر أو الصين استعداداً لمساعدة تركيا اقتصادياً، لا تكون هذه المساعدة مُتكافئة مع الثغرة المالية التي تُعانيها البلاد راهناً. إضافةً إلى ذلك، وأبعد من الآمال، كي تكون الركيزة الإقتصادية الأوروبية فعالة، يجب توافُر خاصيتَين لا تستطيع أنقرة تأمينهما راهناً، وهما سيادة القانون فضلاً عن الإحترام والحوار.

تواجه تركيا مأزقاً. إذ يبدو أن الإستمرارية السياسية لرئيسها الذي خسر حزبه هيمنته الإنتخابية، تقتضي سردية قومية تصاعدية إضافةً إلى منظومة سلطوية شاملة. أقلّه هذا ما قررته القيادة التركية. وفي الوقت نفسه، يتطلب الإنقاذ الإقتصادي تعاوناً تركياً مع أوروبا والمؤسسات المالية الدولية. ولكن في هذا المجال أيضاً، دفعت الحسابات الخاطئة الناجمة عن منظومة السلطة القائمة على رجل واحد، البلاد في الإتجاه الآخر. ونظراً إلى الركود الذي تفرضه الجائحة في تركيا، لا شك في أن هذا المأزق سيتحوَّل إلى معضلة مُستعصية… إلّا إذا كانت الفوضى الدائمة هي الخيار المفضّل لدى أردوغان.

  • مارك بيريني هو باحث زائر في كارنيغي أوروبا، حيث يُركز بحثه على التطورات في الشرق الأوسط وتركيا من منظور أوروبي.
  • عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى