زنبقةُ الوادي عروسُ مايو

بقلم هنري زغيب*

وَعَينا عليه عيدَ العمَّال ذا وجهٍ واحد: مُطالبةُ العمَّال بتحسين حقوقهم. لكنَّ له وجهًا آخرَ بهيًّا ذا رمزٍ مُلوَّنٍ بالأَمل والفرح: تكريسُ الملك الفرنسي شارل التاسع منذ 1561 أَولَ مايو (أيار) عيدًا للحب، يُقدِّم فيه العشَّاق لحبيباتهم باقةً مضمومةً من زهرة جميلة معروفة بـ”زنبقة/مايو” أَو “زنبقة الوادي”. وهي زهرةٌ ربيعيةٌ لطيفةٌ أَنيقةٌ حيويةٌ بيضاءُ، مُزنَّرةٌ بأَخضَرَ ساطعٍ، عنْقها متطاولٌ في الفراغ، مشكوكةٌ فيه كوكبةُ أَجراسٍ صغيرة بشكل عناقيدَ على رأْسها تاجٌ مزهوٌّ جميل، تفوحُ منها رائحة عذبةٌ فَرِحَةٌ، ربط علماءُ اسمها اللاتيني “ماياليس” بشهر مايو.

الأَوَّلُ من مايو، عيدًا عالميًا رسميًّا، مرتبطٌ بنضال العمَّال في نهاية القرن التاسع عشَر للحصول على حقهم بالعمل ثماني ساعات فقط في اليوم، إِثْرَ تظاهُر 10 آلاف عامل في نيويورك أَمام القصر البلدي سنة 1884، ومُنذئِذٍ دَرَج إِعلان الأَول من مايو عيدًا للعمل والعُمَّال يعلِّقون على صدرهم زهرة “زنبقة الوادي” البيضاء عوض النِسرينة الزهرية. لكنَّ للأَول من مايو رمزيةً أُخرى ترقى إِلى حكايةٍ تروي أَنَّ الملك الفتى شارل التاسع رافق يومًا أُمَّه كاترين مِديتْشي إِلى مقاطعة دوفينيه، فأَهدى سيِّدها باقةَ من “زنبق الوادي” للملك الفتيّ أَعجبَتْه، حتى إِذا تولَّى العرش راح كل الأَوَّل من مايو يقدِّم منها باقةً إِلى سيِّدات القصر الملَكي، وأَمَرَ أَنْ يُصبح هذا التاريخ دُرجَةً سنويةً انتشرَت من فرنسا إِلى دول أُخرى، وصارت هذه الزهرة رمزَ الأَوَّل من مايو يُهديها العشَّاق حبيباتِهِم، عروسَ الأَناقة والجمال، صَبوحةَ الأَمل والفرح.

من أَسمائِها أَيضًا: “زهرة مايو”، “ناقوسَة الغابة”، “زنبقة الوادي” (جعلَها الكاتب الفرنسي بَلزاك عنوان إِحدى رواياته سنة 1836)، ، “عشبةُ ﭘـارناس” (في الميثولوجيا أَنَّ أَﭘُّـولون، إِله الفنون، كان يفرِشُ هذه الزهرة سجَّادةً عطريةً على أَرض الـﭙـارناس كي تَمُرَّ حبيباتُه التسْع فَلا يجَرِّحْنَ أَقدامَهُنّ).

مع تطوُّر العصر الصناعي دخلَت هذه الزهرةُ عالم العُطور، فكانت الزهرةَ المفضَّلةَ الأَحَبَّ إِلى المصمِّم كريستيان ديور فأَطلق من عطرها سنة 1954 عطر “دِيُوريسِّمو” ووضَعَها شارةً على منتجاته العطرية وأَزيائِه النسائيَّة أَلوانًا وثَنِيَّات، وقدَّم للسيِّدات في الأَوَّل من مايو عامئذٍ “زنبقة الوادي” هديةً مع كل قاروة عطر، فانتشرَت تلك الموضة وأَخذَت الزهرة معناها الأُنثَويَّ الجميل في كل أَوَّل مايو.

هكذا إِذًا: فيما استذكارُ معظمِ الناسِ الأَوَّلَ من مايو يقتصر على عيد العمَّال، يحتفل العالم منذ عُقُودٍ بمايو شهرَ الجمال شِعرًا ورسمًا ونحتًا وسائرَ الفنون الجميلة.

ويرمز البعضُ بهذه الزهرة إِلى دمعة العذراء مريم، ذَرَفَتْها قبالةَ صليب ابنِها يسوع، فبات مايو شهرًا مريميًّا مُكَرَّسًا، وباتت تلك الزهرةُ نَوَّارةَ الحقول بــ”زنبقة الوادي”، تلك الطالعةِ من طُهْر مريم وكلِّ عذراءَ عاشقةٍ نقيَّة.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى