كيف يُمكن لترامب إنهاء الحرب في سوريا

فيما النظام السوري يعيش أزمة إقتصادية واجتماعية قاسية، وإيران مُلتهية في وضعها الداخلي المتوتر، يبدو فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان أنهما مستعدان أخيراً للتفاوض بعدما أنهكتهما حرب سوريا وجائحة “كوفيد-19″، وهذه فرصة لدونالد ترامب لكي يُنهي الحرب في سوريا بشروطه.

رجب طيّب أردوغان: ينتظر صفقة حول سوريا

 

بقلم أيمن عبد النور*

في صيف 2011، عندما بدأت حركة الإحتجاج السلمي في سوريا تتحوّل إلى حرب أهلية كاملة، طلب نشطاء المعارضة السورية إلى الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، المساعدة في جهودهم للإطاحة بالزعيم السلطوي في البلاد، بشار الأسد. تم استقبال المُنشقّين بدفء كبير وتعاطف من قبل مسؤولي وزارة الخارجية والمُشرّعين من كلا الحزبين السياسيين في واشنطن، لكن إدارة أوباما – التي ركّزت أصلاً على منع إيران من تطوير أسلحة نووية وكانت حريصة على تجنّب الوقوع في مستنقع الصراع الطائفي – رفضت التدخّل. على مدى السنوات الخمس والنصف اللاحقة، حيث قتلت الحرب في سوريا مئات الآلاف من الناس وشّردت الملايين، عرض أوباما فقط الدعم الكلامي والإنساني للمتمرّدين السوريين. لقد فشل مراراً في اتخاذ النوع المطلوب من الإجراءات الحاسمة التي ربما كانت أنهت حكم الأسد الوحشي أو غيّرت مسار الصراع الدموي.

منذ تولّيه منصبه في العام 2017، واجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنتقادات مُتكرّرة لافتقاره لسياسةٍ خارجية مُتماسكة وازدرائه الواضح للديبلوماسية التقليدية. لكن ترامب أظهر نفسه على أنه قادرٌ على اتخاذ القرار الجريء وغير خائف من المواجهة. في حالة سوريا، على سبيل المثال، ردّ ترامب مرتين على استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية بضربات جوية إنتقامية فورية – في تناقض صارخ مع سلفه، الذي وصف الأسلحة الكيميائية بـ “الخط الأحمر”، ثم صمت ولم يقم بأي ردّ فعل عندما استخدمها الأسد ضد المدنيين في سوريا. على الرغم من أن تصريحاته المُتناقضة قد تُحبط، على السواء، مُحلّلي السياسة الخارجية وحلفاء الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، إلّا أن نهج ترامب الخاص والمُتفاعل تجاه التحديات الدولية أثبت في كثير من الأحيان أنه أكثر فاعلية مما يريد منتقدوه الإعتراف به. حتى أن قرارات ترامب بإلغاء الصفقة النووية الإيرانية واغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، اللواء قاسم سليماني – أكثر خطوات السياسة الخارجية جرأة ومثيرة للجدل في رئاسته – فشلت حتى الآن في تحقيق العواقب الكارثية التي تمّ توقّعها والتنبؤ بها على نطاق واسع في أعقابها مباشرة.

الموالون للأسد يتساءلون الآن علانية عن شرعية النظام

لقد حان الوقت لأن يتصرّف ترامب بجرأة مرة أخرى من طريق عقد صفقة كبيرة على سوريا. بفضل مجموعة غير عادية من الظروف الإقتصادية والجيوسياسية والوبائية، تتمتع إدارة ترامب بفرصة تاريخية لوضع حدٍّ للصراع الذي دمّر البلاد لما يقرب من تسع سنوات. كان الإقتصاد السوري يتدهور على مدار الحرب الطويلة، ولكن على مدى الأشهر العديدة الماضية، دفعت الأزمة المالية في لبنان المجاور البلاد إلى حالة من الإنهيار التام. الجيش السوري ضعيف للغاية، وهذا جعل الموالين للأسد يتساءلون علانية عن شرعية النظام لأول مرة. من جهتهما، تُواجه روسيا وتركيا، اللتان تدعمان طرفي النزاع، مشاكل اقتصادية داخلية كبيرة – وقد تفاقمت فجأة الآن مع وصول الفيروس التاجي الجديد. كما أن ما يُسمى بعملية أستانا للسلام، التي تم وضعها في صفقة العام 2017 بين إيران وروسيا وتركيا، تنهار، مع تضاؤل دور إيران بشكل متزايد كمُفسد ومؤثّر. حتى اتفاق وقف إطلاق النار المُبرَم في 5 آذار (مارس) بين روسيا وتركيا في إدلب، آخر معقل للمعارضة المتبقية في سوريا، بدأ ينفجر، بعد أسابيع فقط من توقيعه. من خلال التصرّف والتحرّك بسرعة وتقديم لكلا البلدين – وخصوصاً روسيا – مسارات لإنقاذ ماء  الوجه من القتال الذي لم يعد بوسعهما تحمّله، يُمكن للولايات المتحدة إنهاء الحرب في سوريا مرة واحدة وإلى الأبد.

الإنهيار الإقتصادي

في المناطق التي يُسيطر عليها النظام في سوريا، الإقتصاد في حالة خراب. الوقود وغاز الطهي نادران، ونقص السلع الأساسية، إلى جانب انخفاض الليرة السورية، أدى إلى ارتفاع الأسعار. للمرة الأولى منذ عقود، يُهدّد نقص القمح الآن إعانات الخبز الحكومية التي تُشكّل دعامة حاسمة لشرعية النظام. في محاولة يائسة لإخفاء عدم قدرتها على تزويد السوريين بما يكفي من الخبز، أطلقت الحكومة أساليب توزيع جديدة “مُبتَكرة”: توزيع الخبز بواسطة الشاحنات بدلاً من المخابز التقليدية وإصدار بطاقات حصص مُجَهّزة بشرائح إلكترونية لكل أسرة. في هذه الحالة إذا لم يحصل السوريون على الخبز لإطعام عائلاتهم، يُمكن للحكومة الآن أن تُجادل وتدّعي بأن سبب ذلك يعود إلى أنهم لم يركضوا بالسرعة الكافية للحاق بشاحنة الخبز أو أتلفوا الرقائق الإلكترونية الحساسة على بطاقاتهم التموينية. والتيار الكهربائي ينقطع بشكل مستمر، وأنصار النظام القدامي بدأوا ينتقدون الأسد وأصدقاءه علانية، رافعين الصوت ضد الفساد المتفشّي الذي دفع الملايين إلى الفقر المدقع.

من ناحية أخرى، أصبحت القوات الجوية للأسد الآن ضعيفة للغاية، حيث تمكنت تركيا في شباط (فبراير) الفائت من فرض حظر جوي على إدلب باستخدام طائرتين مقاتلتين فقط من طراز “اف-16” (F-16) إلى جانب أسطول من الطائرات بدون طيار. آخر مرة اشترت فيها سوريا طائرات عسكرية بكميات كبيرة كانت في العام 1983 (على الرغم من أنها حصلت على عدد صغير في العام 1996). في الوقت الحاضر، لدى الأسد حوالي 30 طائرة عاملة فقط، وتفتقر حكومته إلى قطع الغيار لإصلاحها عندما تتعطّل. الجيش السوري أيضاً مُنهَكٌ ومعنوياته في الحضيض. بعد أشهر من التحضير لمعركة بطولية أخيرة “لتحرير” منطقة إدلب الشمالية الغربية، صُدِم الجنود عندما أُمِروا بالتوقف عن التقدم قبل الأوان بوقف إطلاق النار في 5 آذار (مارس) بين روسيا وتركيا – إتفاقٌ لوقف إطلاق النار يتعلّق بالأراضي السورية، تم توقبعه من دون أي تدخل من الرئيس السوري. بالنسبة إلى العديد من الجنود، فإن معرفة أن رئيسهم قد استُبعِدَ من مناقشات وقف إطلاق النار كانت لحظة من الإحباط المروع الذي كشف الحقيقة حول خضوع زعيمهم لروسيا.

الطموحات الروسية

على الرغم من أن الحرب في سوريا هي واحدة من أكثر الحالات تعقيداً في العصر الحديث، فإن أسباب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدخولها في أيلول (سبتمبر) 2015 كانت واضحة نسبياً. أعرب بوتين عن أمله في رفع مكانة روسيا وصقل سمعته الدولية. من خلال جعل روسيا لا غنى عنها في الحملة ضد “الدولة الإسلامية” (أو داعش)، كان بوتين يأمل في جعل بلاده شريكاً متساوياً مع الغرب في الحرب ضد الإرهاب، تماماً مثلما كان الإتحاد السوفياتي مع الحلفاء لهزيمة النازية. وقد أوضح الرئيس الروسي هذه الرؤية بشكل صريح عندما أشاد في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة، قبل فترة قصيرة من تدخل قواته في سوريا، بمؤتمر يالطا بعد الحرب العالمية الثانية لإرساء “أساسٍ متين للنظام العالمي بعد الحرب”. ليس من الشطط القول أن بوتين كان يأمل، من خلال إشراك روسيا في الحرب في سوريا، أن يجد نفسه في وقت لاحق في موقع ستالين في يالطا، ويلتقي بقادة القوى العظمى الأخرى ويُعيد تنظيم مجالات ومناطق التأثير والنفوذ في العالم.

الأمور لم تَسِر على هذا النحو. لقد وصلت روسيا الآن  إلى الحد الأقصى لما يُمكن أن تحقّقه في سوريا، سواء لأغراض بيع الأسلحة أو تلميع سمعتها أمام المجتمع الدولي. إن المزيد من الإنخراط في سوريا الآن يُهدّد بإلحاق الضرر بصورة موسكو من خلال الكشف عن فشل أسلحتها ضد ترسانة تركيا المتفوّقة. يعتمد الجيش السوري بشكل كامل على دعم روسيا غير المشروط، وهناك دلائل واضحة على أن الروس يفقدون صبرهم مع الأسد، ويتساءلون عن حكمة الإستمرار في مساعدة نظامه. في الأسبوع الفائت، نشرت وكالة أنباء روسية مملوكة لحليف مُقرَّب من بوتين مقالاً هجومياً عنيفاً على ضعف الأسد وفساده. الأنباء التي تُفيد بأن الأسد أنفق أخيراً 30 مليون دولار على لوحة ديفيد هوكني (David Hockney ) كهدية لزوجته أسماء، تم نشرها لأول مرة على موقع إلكتروني روسي أيضاً. لكن أكثر ما أضرّ بالنظام السوري كان مقالاً حديثاً للسفير الروسي السابق في سوريا، ألكسندر أكسينينوك (Aleksandr Aksenenok)، حيث جادل بأن الأسد مهووسٌ بالنصر العسكري، ومُنفصلٌ بشكل متزايد عن الواقع، وغير قادر على إعادة بناء سوريا بعد الحرب وتحويلها إلى دولة وظيفية وعاملة وقابلة للحياة مرة أخرى.

بوتين كان يأمل أن يجد نفسه في موقع ستالين في يالطا

مع غرق أسعار النفط إلى مستويات مُنخفضة جديدة، يحتاج بوتين بشدة إلى مصادر جديدة للإيرادات. إن اتفاق سلام يُمكّن من إطلاق مشاريع إعادة الإعمار سيتيح لروسيا فرصةً لاسترداد بعض الأموال التي أنفقتها لدعم الأسد – من خلال تزويد الشركات الروسية بتيار وسلسلة من العقود المُربحة المُتعلّقة بإعادة الإعمار – ويمنح بوتين أيضاً انتصاراً سياسياً دولياً. لن يتخلّى بوتين عن فكرة الدور القيادي لروسيا في سوريا ما بعد الحرب، لكنه سيكون مُستعداً للتخلي عن الأسد نفسه كوسيلة لتحقيق هذه الغاية.

يجب أن تُركّز إدارة ترامب، أولاً وقبل كل شيء، على جلب روسيا إلى طاولة المفاوضات. لكن تركيا أيضاً بحاجة ماسة إلى صفقة. الوضع الاقتصادي المحلي في تدهور، والتوترات داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم في ازدياد. بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أصبحت الخسائر البشرية والمالية لتدخله السوري غير مستدامة. لا يمكن لأنقرة أن تنجح في سوريا بدون دعم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويخشى أردوغان من انسحاب أميركي مفاجئ من شمال شرق سوريا. منذ وقف إطلاق النار في 5 آذار (مارس) في إدلب، بدأت تركيا مبدئياً التعاون مع روسيا. لكن أردوغان يعتمد على المساعدة العسكرية الأميركية، المُقدَّمة على المستوى الثنائي ومن خلال الناتو، وسيُرحّب بمشاركة إدارة ترامب في إنهاء الصراع.

خطوة نحو السلام

إن خريطة الطريق لإحداث انتقال سياسي ديموقراطي سلمي بقيادةٍ سورية موجودة أصلاً. لقد حُدِّدت في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي تم تبنّيه بالإجماع في كانون الأول (ديسمبر) 2015. لكن وقف إطلاق النار هو الخطوة الأولى، وينبغي على ترامب أن ينتهز الفرصة لتحقيق ذلك. في الواقع، ربما يكون الزعيم الوحيد في العالم القادر على القيام بهذا الأمر.

صحيحٌ أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بالمكانة عينها في الشرق الأوسط كما كانت في السابق، لكن بوتين لن يتردد في اتباع ترامب إلى طاولة المفاوضات – ويرجع ذلك جزئياً إلى أن ذلك سيُعزّز طموحاته في “يالطا” جديدة، ولكن في الغالب لأنه ليس لديه خيار آخر يُذكر. بعد إبرام صفقة مع روسيا وضمان تنحّي الأسد، يُمكن لترامب الاقتراب من أردوغان ومن هناك وضع سوريا على طريق التحوّل الديموقراطي وإعادة البناء السلمي. الحرب في سوريا فوضوية. ستظل هناك حاجة إلى خدمة العديد من المصالح وحل العديد من المشكلات في الاتفاقية النهائية. لكن صفقة مع روسيا وتركيا تؤدي إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار وإزاحة الأسد هي الخطوة الأولى الضرورية؛ بعد ذلك، سوف ينضم الأكراد بسهولة. لقد أثبت ترامب أنه قادرٌ على التصرّف بجرأة. من خلال عقد صفقة كبيرة على سوريا، سيظهر للعالم مرة أخرى أنه يستطيع تحقيق نتائج ملموسة.

  • أيمن عبد النور هو رئيس منظمة المسيحيين السوريين من أجل السلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى