أموال اللبنانيين بين تماسيح المصارف وثعالب السياسة

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

عند الحديث عن الأزمة المالية الخانقة التي يُعانيها لبنان، من الضروري التمييز بين الأموال الخاصة التي تبخّرت والأموال العامة التي نُهبت وسُرِقت.

فودائع الناس في المصارف التجارية هي أموالٌ خاصة، كُلفت المصارف بإدارتها بطريقة ذكية وحكيمة مما يؤمّن مداخيل للمُودعين على شكل فوائد، ولأصحاب المصارف على شكل أرباح. هذا التكليف من المُودعين للمصارف قام على الأمانة والثقة، لذلك تُسمّى المصارف مؤسسات إئتمانية. كانت المصارف تتشدّد في تسليف الأموال للمُقترضين وتُخضعهم لدراسات الجدوى الإقتصادية لكل مشروع، قبل الموافقة على طلباتهم. والمشكلة أن أصحاب المصارف استغلّوا هذه الثقة الغالية التي مُنحت لهم وقاموا بتوظيف أموال المُودعين في شركات ومؤسسات خاسرة أو إقراضها إلى دولة مُفلسة او معرّضة للإفلاس، مُقابل أرباحٍ وعوائد مُرتفعة ومُغرية حصلوا عليها وقاموا، وبغمضة عين، بإخراجها من لبنان إلى حسابات محمية في مصارف دولية. وعندما جاء المُودعون إلى المصارف التي وثقوا بها لاسترداد بعض أموالهم وجدوا صناديقها فارغة وخاوية، وأصحابها يذرفون دموع التماسيح. هكذا تم تدمير القطاع المصرفي في لبنان على يد أصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارتها وكبار مدرائها، ومن الصعب جداً أن يستعيد هذا القطاع نشاطه بعد فقدان ثقة المُودعين به. لأن الخيانة التي تمت والإذلال الذي عاناه ويعانيه الناس على أبواب المصارف دمرا العلاقة بين الطرفين ومن الصعب جداً ترميمها.

أموالُ المُودعين الخاصة هذه تحوّلت في نسبة كبيرة منها إلى أموالٍ عامة بالتواطؤ المصلحي والمنفعي واللاأخلاقي بين مافيا المصارف والحاكم بأمره في مصرف لبنان ومختلف مكوّنات الطبقة السياسية التي توالت على الحكم منذ انتهاء الحرب الأهلية. هذه الأموال العامة (أموال المُودعين) لم تُستعمَل لإقامة البنى التحتية ولدعم القطاعات الإنتاجية ولخلق فرص عمل وزيادة نسبة النمو إلّا بشكل جزئي، وأُهدر القسم الأكبر منها على عجز الكهرباء المتراكم، وعلى مشاريع مَشبوهة تفوح منها روائح الفساد والنهب المُنظّم، وعلى نفقات كثيرة غير مجدية إقتصادياً أو إجتماعياً. لقد سُرِقَت الأموال العامة من قبل الطبقة السياسية في ظل موجات من الشعارات البرّاقة والوعود الكاذبة بالرفاه والنهوض الإقتصادي، واكتشف اللبنانيون أنه رغم مليارات الدولارات التي تمّ إنفاقها لا يزال لبنان يغرق في العتمة والنفايات ويفتقد إلى مختلف البنى والخدمات الأساسية. وبدل المبادرة من قبل الذين تولّوا المسؤولية خلال العقود السابقة الى إطفاء الدين العام أو تخفيضه، عُولج الدين بالدين فارتفعت الفوائد بشكل غير مسبوق، ليصل الدين العام الى ٩٠ مليار دولار. وفي ظل كباش دولي وإقليمي حاد على الساحة اللبنانية حول ملفات سياسية واقتصادية وعسكرية، أدّت مجموعة من القرارات المُفاجئة والمدروسة من صانعيها، إلى انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار بشكل غير مسبوق، وذلك بعد موجة تصريحات وتطمينات كاذبة أطلقها المسؤولون حول متانة هذه الليرة وحول استقرار الأوضاع المالية.

هكذا تبخّرت أموال المُودعين، أموال الناس، التي اكتنزوها لمواجهة أيام الضيق أو لمشاريع مستقبلية، في لعبة إجرامية أبطالها تماسيح المصارف الذين يذرفون الدموع، والحاكم بأمره في مصرف لبنان، وثعالب السياسة الذين يتنعمون بجنى عمر الناس.

 

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني ومدير عام سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى