قبل 170 سنة: غوستاڤ فلوبير “محجورًا” في كرنتينا بيروت بسبب الكوليرا

الحجر الصحّي ليس جديداً على لبنان فقد حصل قبل 170 سنة بسبب الكوليرا، وقد سجّل ذلك الطبيب الفرنسي بنوى بوَيّيه في كتاب في القرن التاسع عشر. وكان الكاتب الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير أحد الذين حُجِرَ عليهم في بيروت في تلك الفترة.

مدخل المحجر الصحي في كرنتينتا بيروت: فحص الواصلين من السفر قبل السماح بدخولهم بيروت.

 

مدير المحجر الدكتور أُولْشاِنِسْكي مع فريقه الإِداري.

 

 

فريق المحجر في صورة تذكارية جامعة أَمام المقهى التركي.

 

مبنى المركز من جهة البحر (تلوين مازن المر لجمعية تراث بيروت).

 

 

غرفة الأَدوية في المحجر.

 

 

غرفة الطعام في المحجر.

 

 

بقلم هنري زغيب*

 في كتاب الطبيب الفرنسي بُنْوى بْوَيِّيه[1] (Benoit Boyer) (1860 – 1898) “الظروف الصحية الراهنة في بيروت وضواحيها المجاورة”[2]، جاء في المقدمة (ص 3): “سكان بيروت وضواحيها ليسوا جميعًا مهيَّإين للتطوُّرات الاقتصادية والاجتماعية (…)، وعلى المسؤُولين واجبُ المساعدة الاجتماعية والمادية، ومُعاقبةُ الـمُخِلّين بالتعليمات الوقائية. وهذا عملٌ لا يقوم به فردٌ في السلطة أَو موظَّفٌ إِداري، بل يَفترَض التـئَامَ اختصاصيين (أَطباء، مهندسين، خبراء في كل ميدان) لإِنقاذ المدينة من انتشار الأَوبئة القاتل”.

من هذا الكتاب، في فصله السادس “مَحجَر بيروت الصحي” (ص 147إِلى161) توسَّع المؤَلفُ الطبيبُ في وصف ذاك الـمَحجر، بأَنه “على الشاطئ تمامًا، في حيّ “الكرنتينا”، يحدُّه شمالًا البحر، شرقًا نهر بيروت، غربًا حي الرميلة، جنوبًا طريق طرابلس. مساحته نحو 30 أَلف متر مربَّع، يحصره من جهات الشرق والغرب والجنوب جدارٌ عالٍ نحو 3 أَمتار، ويبقى مفتوحًا شمالًا من جهة البحر فيطلُّ على شاهق صخري من نحو15 مترًا. يَبعُدُ عن المسلخ نحو 200 متر. في الحالات العادية يحرسه خفيرٌ تركيٌّ، ويتردَّد إِليه عاملٌ ميكانيكي يهتم بصيانة آلات التعقيم (…). يتأَلف المحجر من 32 غرفة ) كل غرفة من 30 مترًا مربعًا) موزعة على ثلاثة أَجنحة متباعدة، أَحدُها للنساء فيه 4 غرَف…”.

إلى هذا  الـمَحجر أُدخِلَ ذات يومٍ الكاتبُ الفرنسي الشهير غوستاڤ فلوبير (1821 – 1880).

أَما كيف ذلك، فهي ذي القصة:

كان فلوبير في الثامنة والعشرين حين قرَّر القيام بجولةٍ إِلى الشرق، مُفيدًا من ثروة مالية أَورثَه إِياها والدُه أَشيل الذي كان غاب قبل أَربع سنوات. كان الشرقُ هاجسًا جميلًا في بال الكاتب الشاب فصمَّم على تحقيق مغامرته، يرافقه صديقُه مَكسيم دو كان[3] (Maxime Du Camp) (1822 – 1894).

صباح الإِثنين 22 تشرين الأَول (أُكتوبر) 1849، ودّع والدتَه وبيتَه في “كرواسّيه” (Croisset)، وانطلق مع مكسيم “إِلى اكتشاف الشرق”. زار الإِسكندرية والقاهرة وأَسوان، وتوجَّه بحرًا إِلى بيروت فبلغ مرفأَها مساءَ الأَحد 21 تموز (يوليو) 1850. وفور وُصولهما أُجْبِرا، مع كامل الطاقم البحري، على الحجْر القسري في الكرنتينا، اتِّقاءً وباءَ الكوليرا الذي كان يحتاط له فَترتئِذٍ لبنان.

من غرفته الصغيرة في ذاك الـمَحجَر كتَب إِلى نسيبته أُولِمب بونانفان (Bonenfan) رسالةً طويلةً شرحَ فيها، بأُسلوبٍ طريفٍ مرِح، ظروفَ الحجْر وما يعانيه فيه.

هنا أَبرزُ ما جاء في تلك الرسالة:

“محجَر بيروت الصحي – الثلثاء 23 تموز 1850

عزيزتي أُولِمـپ

إِن لم أَكتُب إِليكِ منذ فترة، ليس عن غياب النية. فأَنا حين أُفكِّر بأُمي أُفكر بكِ تلقائيًّا لأَنكِ أَقرب النساء إِليها، وهي تحبُّكِ جدًّا. غير أَن الكتابة إِبَّان السفَر مهمة شاقة: الوقت يمضي في التجوال طوال النهار، ونصل عند المساء مرهَقين، نَلتَهِم طَعامًا كيفما اتفق، وننام كي نُفيق صباحًا باكرًا فنمتطي حصانًا أَو جَملًا أَو حمارًا ونكملَ التجوال.

وبما أَنني اليوم سجينُ هذا المحجَر، أُفيد من الوقت كي أَكتبَ إِليكِ للتذكار. الكرنتينا وُجدَت للحجْر، والحجْر وُجدَ لِمَلْءِ جيوب هؤُلاء الأَتراك بحجَّة دَرء الوباء الذي يخشَونَهُ مرعوبين. وها هم حجرونا خوفَ أَن نكون مصابين بالكوليرا، لأَن السفينة التي أَقلَّتنا من الإِسكندرية إِلى هنا رسَت في مالطة وكان فيها قبل 15 يومًا إِصابتَا كوليرا.

هكذا نحن الآن معزولون في شبه جزيرة، محروسون بكل تشدُّد. والغرفة التي أَكتُب فيها إِليكِ، ليس فيها كرسيّ ولا مقعد ولا طاولة ولا أَثاث ولا زجاج نوافذ، و”نقضي حاجتَنا الصغيرة ” (التبويل) من خلال فتحات صغيرة في هذه المسمَّاة زورًا نوافذ. قد تجدين ذلك غريبًا، لكنه هنا جزء من المشهد. والـمُضحِك أَن حرَّاسنا يتعاملون معنا عن بُعْد بواسطة قصَبة طويلة، ويروحون يقفزون كالماعز كلَّما اقتربنا منهم، ويتناولون نقودَنا عن بُعد في قصعة ممتلئة ماءً.

مساء أَمس أَقدمَ أَحد المحجورين على رفْس أَحد الحرَّاس في كلْيَته، مدحرجًا إِياه من أَعلى الدرج، لأَن ذاك الحارس الأَبله جاء يعقِّمنا بدخان الكبريت فكاد ذاك المحجور المسكين يختنق، وراح يسعل بشخيرِ مئة إِبليس مزكومين يسعلون معًا. وحين، للتسلية، نريد إِخافة هؤُلاء الحرَّاس الساذجين نهدِّدهم من بعيدٍ بتقبيلهم فيشْحَبُون رعبًا.

صحيح أَننا الآن في مكان ذي طابع جنائزيّ، لكننا نضحك كثيرًا ونلهو ونتسلى. أَمامنا ينبسط منظر طبيعي جميل جدًّا لعلَّه من أَجمل مشاهد العالم: بحر أَزرق نيليٌّ يضرب أَقدام الصخور التي نراها من شاهقنا. مياه البحر هنا من النقاء بحيث أَننا حين ننزل إِليها نرى في عُبِّها تسبح الأَسماك، ونرى في قعرها تتحرَّكُ الأَعشابُ البحرية السامقة، والطحالبُ البحرية تنحني وتنشُب مستقيمةً وفْق حركة الموج، والأَعشاب تفترش الرمل بكل ما فيها من أَزهار وخُضرة. وإِذا تلفَّتْنا عاليًا حولنا انفتحَت أَمامنا سلسلةُ جبال لبنان، معنَّقَةً بالغيوم تتمرجح على صدرها، ومعتمِرةً على قممِها الثلجَ الأَبيض الجميل. هذه مناظر، يا عزيزتي أُولِمـپ، لا نراها في ﭘـاريس ولو دفَعنا ثروة كي نرى.

بعد يومَين أَو ثلاثة سنغادر ممتطين الخيل إِلى أُورشليم فنبلغها مع نهاية الأُسبوع المقبل، خاتمين بذلك سفرَنا بحرًا. سنستخدم الحصان أَو البغل وأَحيانًا الجمَل. أَما ما يقال عن دُوار البحر فليس يصيبُنا برًّا، بل نشعر في اليوم الأَول ببعض الانزعاج إِن كان السَرج غير نظيف. فالذي امتطيتُه يومًا في رحلتي إِلى القُصَير[4] على ضفاف البحر الأَحمر، كان له – عدا مئات حشرات القمْل التي “أَهداني” إِياها – جرح متقيِّحٌ في قائمته اليسرى تفوح منه رائحة النتن، حتى إِذا جاء المساء حرمَني من التمتُّع بِشَمِّ عرار الصحراء العربية. لم يكن جمَلًا، ذاك الذي اسمُه كذلك، بل كان بؤْرةَ بُثُور جلْدية متنقِّلة ذات أَربع قوائم. وتلك الحيوانات المسكينة كانت غالبًا تلهثُ جوعًا لبُخْل أَصحابها، ولا تجد في طرقاتها الطويلة ما تأْكله فَتَلْتَهِم بَعْرَها. عدا ذلك، وجدتُ الجمَل حيوانًا لطيفًا طريفًا، وكم جميلٌ مشهدُ الجِمَال سائرةً في الأُفق البعيد صفًّا واحدًا مرتَّبًا كما الجنود المنضبطون، ورقابها تحدو كأَعناق النَعَام. لا أَدري مَن الذي شبَّهَ المرأَة القبيحة بالناقة. كأَني به أَطلقَ هذا التشبيه الأَبله السخيف لأَنه لا يدرك أَهمية الجنْس الجميل.

ها الليل انتصَف، عزيزتي أُولِمـپ، وحان وقتُ النوم.

قَبِّلي عني أَقاربكِ جميعًا، وأَنتِ أَيضًا قَــبِّـلِـيـكِ عني.

مع محبتي إِياكِ من عمق قلبي

غوستاف”.

بعد أَربعة أَيامٍ من تاريخ تلك الرسالة غادر غوستاڤ فلوبير بيروت وأَكمل جولاته.

وبعودته إِلى فرنسا كان ملأَ في دفاتره صفحاتٍ وتدويناتٍ من تلك الرحلة ومن أَيام الحجْر، ذكرياتٍ بعضُها طريف والآخَر أَليم، ظهرت ملامحُها في عددٍ من كتُبه اللاحقة.

نهار الجمعة 19 أَيلول (سـﭙـتمبر) 1851، حين فتَح أَوراقه متهيِّئًا ليخُطَّ الصفحةَ الأُولى من رائعته الخالدة “مَدام بوﭬـاري”[5]، كانت فيها ملامحُ بيِّنةٌ من ذكريات رحلته إِلى الشرق.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم.
  • يصدر هذا المقال في “أَسواق العرَب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” بيروت.

 

الحواشي

1- أُستاذ الطب العلاجي وعُلوم الصحة بين 1889 و1897 لدى كليَّة الطب في جامعة القديس يوسف – بيروت.

2- 176 صفحة – مطبعة لْيُون – فرنسا (1897).

3- كاتب ومصوِّر فوتوغرافي فرنسي. له مؤَلَّفات في أَدب الرحلات نصوصًا وصوَرًا بكاميراه الخاصة. هو مِن أَوائل مَن التقطوا صوَرًا للأَهرام. صديقُ شعراء عصره، أَهداه بودلير قصيدة “السفَر” آخر قصائد مجموعة “أَزهار الشر”.

4- مدينة مصرية (في محافظة البحر الأَحمر) غنيَّةٌ بالآثار القبطية والرومانية والمواقع السياحية الجميلة. 

5- روايةٌ طويلة صدرَت أَوَّلًا على حلقاتٍ أُسبوعية متسلسِلة في “مجلة ﭘـاريس” بين 1 تشرين الأَوّل و15 كانون الأَول 1856، ثم صدرَت كتابًا في نيسان 1857 بعدما ربح فلوبير الدعوى التي أَقامها ضدَّه المدعي العامّ وتمت محاكمته في 29 كانون الثاني 1857 وتبرئَتُه من تهمة الـمسّ بالأَخلاق العامة.

  *)  الصُوَر الفوتوغرافية تعود إلى سنة 1899، وهي من مجموعة “تراث بيروت”، مأْخوذة من أَرشيف المؤرخ وعالم الآثار الأَلماني ماكس ﭬـون أُوﭘـنهايم (1860 – 1946) إبَّان جولته في الشرق عامَي 1899 و1900.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى