إلى أين تتجه الحرب في اليمن؟

تدخل حرب اليمن عامها السادس من دون أمل بنهايتها في أي وقت قريب، حيث تتجهً نحو صيغة غير مباشرة بالإعتماد على الوكلاء المحليين بصورة كبيرة، أي أنها ستتحول إلى حربٍ بالوكالة التي ستزيد من مآسي اليمنيين.

عبد ربه منصور هادي: رئيس الحكومة الشرعية بالإسم!

 

بقلم عمّار الأشول*

في السادس والعشرين من آذار (مارس)، الذي يصادف الذكرى الخامسة لإطلاق “التحالف العربي” بقيادة السعودية عملية “عاصفة الحزم” في اليمن لإعادة الحكومة الشرعية، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الأطراف المُتقاتلة في اليمن إلى وقفٍ فوري للأعمال العدائية، والتركيز على التوصّل إلى تسوية سياسية من طريق التفاوض، وبذل قصارى جهدهم لمواجهة الإنتشار المُحتَمَل لـفيروس “كوفيد-19”. وقد لاقت هذه الدعوة ترحيباً رسمياً من الحكومة المُعتَرَف بها دولياً ومن قبل “التحالف العربي” ومن الحوثيين. ويبدو أن “التحالف العربي” بقيادة السعودية في طريقه لإنهاء  الحرب، ولكن هذا لا يعني أن نرفع سقف الأمل بنهاية الحرب بصورة كاملة.

الواقع أن التحالف لم يفلح بعد خمس سنوات من الحرب بتحقيق أيٍّ من أهدافه المُعلَنة والتي أبرزها إعادة الحكومة الشرعية بعد الإنقلاب الذي نفّذه الحوثيون في أيلول (سبتمبر) 2014، بل إن التحالف لم يحافظ على تماسكه. وأول شرخ أصابه كان التصدّع داخل مجلس التعاون الخليجي في حزيران (يونيو) 2017، عندما أقدمت السعودية على إعفاء دولة قطر من الإستمرار في التحالف. وقد تحوّلت قطر من دولة عضو في التحالف إلى العمل على إفشاله من خلال أدوات عدة، مُستغلّة علاقتها مع حزب “التجمع اليمني للإصلاح” (الإخوان المسلمين في اليمن)، وهو المسيطر على المفاصل المهمة في الحكومة الشرعية، ومستثمرةً أيضاً أمبراطوريتها الإعلامية في التشكيك بكل ما له علاقة بالتحالف. وخلال هذه المدّة، انسحبت منه العديد من الدول، كما أن التحالف فشل في الحفاظ على تماسك وقوّة المبرّر الشرعي له، المتمثّل بالحكومة اليمنية الشرعية. وقد بدأت الحكومة الإنتقالية في السودان، تحت تأثير ضغوط المعارضة، تقليص عديد قواتها في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وعمدت إلى خفضها مُجدَّداً في كانون الأول (ديسمبر)، ثم في كانون الثاني (يناير). وهذه كانت أكبر عملية خفض للقوات البرية التابعة للتحالف، فقد تراجع عدد الجنود السودانيين من 40,000 في مطلع العام 2017 إلى 657 في كانون الثاني (يناير) 2020، وهو بقاء رمزي لحفظ ماء وجه التحالف وإعطائه مبرّر الإستمرار.

إذاً تتابعت الإنسحابات من التحالف، وكان أبرزها الإنسحاب الإماراتي بشكل كامل بحسب ما أعلنت أبوظبي في 8 شباط (فبراير) الماضي، والذي من الواضح أنه جاء حفاظاً على المصالح الاقتصادية بعد أن وصلت طائرات الحوثيين المُسيَّرة إلى مطار أبوظبي في العام 2018 وأعقبتها تفاهمات إيرانية مع الإمارات جاءت بعد التوتر في الخليج العربي على وقع أزمات الناقلات البحرية بين أميركا وإيران، وشملت أيضاً تهدئة غير مباشرة بين الإمارات والحوثيين بوساطة إيرانية. وكانت الإمارات شاركت في التحالف بأكثر من 15 ألف جندي وما يزيد على 130 ألف طلعة لسلاحها الجوي بحسب نائب رئيس أركان قواتها عيسى المزروعي. ومع انسحاب الإمارات، باتت السعودية شبه وحيدة في هذا التحالف.

ونتيجةً لتصدّع التحالف، ظهرت كيانات سياسية وعسكرية منافِسة للحكومة الشرعية بدعم مباشر وغير مباشر من بعض دول التحالف العربي. فقد ظهر المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين في تموز (يوليو) 2016 وانبثق عنه ما عُرف بـ”حكومة الإنقاذ الوطني” التي تمارس سلطاتها في صنعاء وبقية المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة الحوثيين. وفي الجنوب، ظهر في العام 2017 ما عُرف ب”المجلس الإنتقالي الجنوبي” المدعوم من دولة الإمارات والذي بدوره يمارس سلطاته في عدن وبعض المحافظات الجنوبية بمعزلٍ عن حكومة الشرعية ما أدّى إلى تقليم أظافرها. فضلاً عن ذلك انقسم البرلمان الذي تم انتخابه في 2003 إلى برلمان مؤيد للحوثيين يمارس مهامه من صنعاء وآخر موالٍ للشرعية عقد دورة يتيمة بين 13 و17 نيسان (إبريل) الجاري.

من ناحية أخرى، تغيّرت حسابات “التحالف العربي” مع الأطراف المحلية اليمنية، بخاصة حسابات دولة الإمارات العدو الأكبر لجماعة “لإخوان المسلمين” في اليمن، مُتّجهةً نحو دعم كيانات سياسية وعسكرية مستقلّة عن الحكومة الشرعية. فبعد دعمها تشكيل “المجلس الانتقالي الجنوبي” الذي يُطالب بالإنفصال، قامت بدعم العميد طارق صالح، وهو الذي بدّل موقعه من مواجهة “التحالف العربي” إلى التعاون معه بعد مقتل عمّه الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، على يد الحوثيين في 4 كانون الأول (ديسمبر) 2017، ليشكّل لاحقاً ما عُرف ب “المقاومة الوطنية” وهي قوة على قدر عالٍ من التدريب تتكوّن إلى حد كبير من قوات سابقة في الحرس الجمهوري اليمني، ويتزعمها في مواجهة الحوثيين من دون الإنضواء تحت قيادة الحكومة الشرعية برئاسة عبد ربه منصور هادي.

نظراً إلى انسحاب السودان والإمارات من “التحالف العربي” الذي دفع بالسعودية إلى التخلّي عن دعم الجيش الوطني بالشكل المطلوب ودخولها أخيراً في محادثات مع الحوثيين، فقد خسر التحالف الكثير من الأراضي، ما ترك مجالاً واسعاً أمام القوات العسكرية المحلية لترسيخ سيطرتها. وقد انتهى الأمر باليمن إلى أربع مقاطعات عسكرية تُسيطر عليها قوى رئيسة على الأرض، ففي حين يسيطر الجيش الوطني التابع لحكومة الشرعية على مأرب وصولاً إلى معظم المحافظات الشرقية الجنوبية، فإن الحوثيين يفرضون سيطرتهم على العاصمة صنعاء والمحافظات الشمالية وصولاً إلى محافظة الجوف عند الحدود السعودية، ويتشاركون مع الجيش الوطني السيطرة على محافظة تعز جنوب غربي اليمن. ويطوّق الحوثيون أيضاً مأرب من ثلاث جهات: شرقاً من نِهْم، وجنوباً من صرواح، وشمالاً من الجوف. ويسيطر “المجلس الإنتقالي الجنوبي” على العاصمة المؤقتة عدن والمحافظتَين الجنوبيتين المُحاذيتين لها، لحج والضالع، ويتقاسم مع الجيش الوطني السيطرة على محافظة أبين شرقي عدن. أما القوة الرابعة فتتمثل ب”المقاومة الوطنية” التي يرأسها العميد طارق صالح، ويمتد نفوذها في الساحل الغربي من مديرية المخا إلى محافظة الحديدة التي تتشارك النفوذ فيها مع الحوثيين.

قد يكون الجيش الوطني الأسوأ حالاً بين هذه القوات. لا توجد إحصائيات دقيقة للقوات البشرية التابعة له، لكن وزير الدفاع محمد المقدشي صرّح رسمياً في نيسان (أبريل) 2019 أن 70% من عدد القوات عبارة عن أسماء وهمية تتقاضى أجورها دون أن تنخرط في المعارك، وهذه واحدة من بين أهم فضائح الفساد التي تسببت بانتكاسات الجيش. فضلاً عن ذلك، سحبت الإمارات في أيار (مايو) 2019 الأسلحة الثقيلة وصواريخ الباتريوت التي كانت بحوزة الجيش، وهو ما أدّى إلى توالي الانتكاسات والخسائر. هذا إضافةً إلى صراع الأجنحة العسكرية داخل الجيش الوطني، حيث إن بعضها ينتمي إلى “الإخوان المسلمين”، والبعض الآخر يعود انتماؤه إلى حزب المؤتمر الشعبي العام الذي كان يرأسه الرئيس السابق علي عبدالله صالح. ويمثّل جناح المؤتمر في الجيش الوطني اللواء صغير بن عزيز رئيس الأركان. وإضافة إلى الفساد المستشري داخل الجيش، لم يتم تأسيس مخابرات عسكرية محترفة، ما سهل للحوثيين اختراق وحداته.

الحوثيون كذلك لم يصدروا بيانات عن عدد القوات المنضوية في صفوفهم، سواءً تلك التشكيلات العسكرية التي انشقّت وتحالفت معهم أو تشكيلاتهم الخاصة المعروفة باسم “اللجان الشعبية”. أما على مستوى الردع فقد طوّروا قدراتهم الجوية والصاروخية وباتوا يُهدّدون أهم المصالح في السعودية والإمارات، خصوصاً بعد استهدافهم مطار أبوظبي الدولي في تموز (يوليو) 2018. وفي آب (أغسطس) 2019، قاموا بإسقاط طائرتين أميركيتين بدون طيار (MQ9) فوق محافظة ذمار، وفي 14 شباط (فبراير)، أسقطوا مقاتلة “تورنادو” تابعة لسلاح الجو السعودي في منطقة المصلوب بالجوف وأسروا طيارَيها الإثنين. لقد تحوّل الحوثيون من الدفاع إلى الهجوم، نتيجة أسباب عدة، أبرزها طول أمد الحرب ما أكسبهم خبرة في التعامل معها حتى إنهم خاضوا صراعاً غير متكافئ، كما كسبوا العديد من المقاتلين نتيجة أخطاء التحالف بحق المدنيين، حيث التحق العديد من الشباب بالحوثيين انتقاماً من التحالف وتعاطفاً مع الضحايا الأبرياء.

في المقابل، تتحدث تقارير دولية عن أن الإمارات سلّحت ودرّبت قوات “موازية” لقوات الحكومة الشرعية، بلغت نحو 200 ألف مقاتل، مُوزّعين على العديد من التشكيلات القتالية التي تتخذ قراراتها باستقلالية شبه كاملة عن قرار الحكومة الشرعية العسكرية والأمنية. وتنتشر هذه القوات في محافظات عدن ولحج وأبين والضالع جنوبي اليمن تحت قيادة “المجلس الإنتقالي الجنوبي”، ضمن ما عُرف بـ”قوات الدعم والإسناد” التي تضم قوات “الحزام الأمني”، وقوات “النخبة” وهي تشكيلات أمنية وعسكرية، فيما تنتشر “القوات المشتركة”  التي تضم ألوية العمالقة، والمقاومة التهامية، وألوية حراس الجمهورية، والتي يقودها العميد طارق صالح، في الساحل الغربي، فضلاً عن قوات أخرى سلفيّة منضوية إلى جانب الإمارات العربية المتحدة، مثل “كتائب أبو العباس” في محافظة تعز جنوب غربي اليمن.

إزاء قيام الحوثيين بزيادة هجماتهم لضرب أهداف حساسة في عمق السعودية والإمارات، وإزاء النفوذ المُتنامي للقوات المدعومة من الإمارات،فقد  قاد ذلك الرياض إلى الموافقة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 على الجلوس مع الحوثيين على طاولة المحادثات. ونظراً للعديد من الأسباب السياسية والاقتصادية التي شكّلت هاجساً للسعودية مثل أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وما رافقها من تداعيات ديبلوماسية، وانخفاض أسعار النفط إلى ما دون الـ30 دولاراً للبرميل الواحد، كذلك الأزمة التي اجتاحت العالم والمتمثّلة بفيروس كوفيد-19، فإن السعودية باتت أقرب من أي وقت مضى إلى القبول بحلّ سياسي يُنهي الحرب في اليمن. وأبرز الدلائل على ذلك عدم التقدم العسكري باتجاه الحوثيين، لا سيما التراجع في الهجمات الجوية منذ تبنّى الحوثيون المسؤولية عن هجوم إيراني على منشأة بقيق النفطية في السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019. لكن أكبر العثرات التي تقف أمام التوصل إلى حلّ سياسي هي تخوف السعودية من تبعية الحوثيين لطهران، لذلك تتجه قبل التفكير بأي حل إلى تأمين وضمان سلامة أراضيها الجنوبية عند الحدود مع اليمن.

إضافةً إلى ذلك، لم يعد المواطن اليمني يثق بنجاح التسويات بعد أن اختبر الكثير منها، حتى وإن كانت برعاية أممية، وذلك بعدما أخفقت اتفاقات أخرى أُبرِمت أخيراً في تلبية التوقعات. لقد ساهم اتفاق ستوكهولم الذي تم التوقيع عليه في كانون الأول (ديسمبر) 2018 بين حكومة الشرعية والحوثيين، في تجنيب مدينة الحديدة الساحلية كارثة إنسانية كانت مُحدقة بها نتيجة النقص الشديد في الأمن الغذائي بسبب الحصار والقتال المُكثّف. ولكن وقف إطلاق النار لم يُعمّر طويلاً، وفي 12 آذار (مارس) أعلنت الحكومة الشرعية الإنسحاب من جميع نقاط المراقبة المشتركة على الحدود العسكرية بين الطرفين في الحديدة، والتي تسلّمتها بعثة مراقبة دولية، مُتّهمةً الحوثيين باستغلال الإتفاق وخرقه، لا سيّما بعد استهدافهم إحدى النقاط المشتركة في مدينة الحديدة وقنص أحد ضباطها.

هذا ليس الاتفاق الوحيد المُهدد بالفشل، هناك أيضاً إتفاق الرياض الذي رعته السعودية بين الحلفاء المحليين للتحالف العربي ممثلين بالحكومة الشرعية والمجلس الإنتقالي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، والذي لم يتم تنفيذ أيٍّ من بنوده حتى هذه اللحظة نتيجة مماطلة المجلس الإنتقالي، بحسب الحكومة الشرعية. لقد توقّفت قيادة المجلس الانتقالي عن تنفيذ الإتفاق لأنه سبق لها أن رفعت شعار انفصال الجنوب، والإتفاق يُلزمها بالتشارك مع الحكومة الشرعية في الحكم تحت ظل الدولة الموحّدة، وهو ما جعلها تواجه معارضة من الإنفصاليين المُتشدّدين في جنوب اليمن.

في ظل غياب الإتفاق، ومع التراجع الكبير في أعداد قوات التحالف، سوف تعمد السعودية إلى تغيير أسلوبها في التدخل في اليمن. ويتم الآن تهيئة الوكلاء المحليين بدعم من القوى الخارجية، وإعدادهم لخوض الحرب بالنيابة بشكل أكبر من ذي قبل، وهو ما بدا واضحاً من خلال توجّه مقصود لأطراف إقليمية نحو صناعة وكلاء محليين وتسخيرهم لتنفيذ أجنداتها ورعاية مصالحها في اليمن.

يواجه اليمنيون محنةً صنّفتها الأمم المتحدة بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم. لكن إذا تحوّلت الحرب إلى صراع بالوكالة بصورة كاملة، فإن معاناة اليمنيين ستزداد أكثر، لأن ذلك سيتطلّب من المجتمعات المحلية والقبلية تحديد موقفها مع هذا الطرف أو ذاك، ما يقود إلى تقسيم المقسّم. ويؤدّي غياب المسؤولية المباشرة للأطراف الإقليمية أمام المجتمع الدولي إلى ازدهار لعبة المال والسلاح نتيجة تضاعف الإستقطابات، فضلاً عن ارتفاع نسبة المعاناة الإنسانية، لا سيّما أن منظمات المجتمع المدني والإنساني المتواجدة في اليمن ستفقد الضامن الأمني لها في حال تخلّى التحالف رسمياً عن مسؤولياته، وهو ما سيعرّض العاملين في المجال الإنساني للخطر ويزيد من معاناة المواطنين. وفي حال تحوّلت الحرب إلى حرب بالوكالة، فإن الدول التي كانت تؤلّف “التحالف العربي” سوف تتملّص من التعويض وإعادة الإعمار.

  • عمّار الأشول صحافي يمني وطالب ماجستير في الإعلام والتواصل في الجامعة اللبنانية في بيروت. يمكن متابعته عبر تويتر: @Ishwal.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى