وباء “كورونا” يُعيد اللبنانيين إلى قُراهم!

مع نمو وتوسّع الأزمة الإقتصادية في لبنان، ربما تكون جائحة كورونا (Covid-19) قد جعلت النزوح من المدن إلى الريف أكثر جاذبية.

السيد حسن نصرالله: مجالس حزبه المحلية تحث في مناطقها على الزراعة لإطعام المؤيدين

 

بقلم مُهنّد الحاج علي*

وسط الأزمة الإقتصادية والمالية اللبنانية العميقة، أطلَقَ أفرادٌ ومنظّمات وهيئات حكومية مبادرات لتشجيع الناس على العودة إلى بَلداتهم وقراهم والإنخراط في الزراعة. لقد أصبحت الحياة الحَضَرية في المدينة صعبة حيث فَقَدَ اللبنانيون وظائفهم، وانخفضت قيمة الليرة اللبنانية، وتأخّرت المساعدات الخارجية للبنان. وخوفاً من أن يؤدّي هذا إلى نقصٍ في الضروريات الحيوية مثل الغذاء، فإن مؤيّدي هذا النهج بدأوا تشجيعه والدفاع عن قضيتهم بشكل متزايد.

الشيءُ الوحيد الذي يدفع هذا النهج هو أن لبنان يستورد معظم غذائه. مع تضاؤل ​إاحتياطات العملة الأجنبية في البنك المركزي، هناك خوفٌ حقيقي من أن البلاد قد لا تكون قادرة على إطعام شعبها في الأشهر المقبلة. هذا هو السبب في أن الحملات المحلية دعت إلى توسيع الزراعة لتوفير الأمن الغذائي، في حين تم إدخال ترتيبات المُقايضة كبديل من الإقتصاد النقدي.

لدى اللبنانيين ذاكرة جماعية عن المجاعة الكبرى التي اجتاحت جبل لبنان بين العامين 1915 و1918، والتي قتلت نحو 200,000 شخص، شكّلوا في ذلك الوقت نصف سكان الجبل. ومع ذلك، فإن عَكسَ عقود من التحضّر، حيث يعيش أكثر من 90 في المئة من اللبنانيين اليوم في المدن وحولها، لن يكون سهلاً، خصوصاً من دون التمويل اللازم.

ليس من المُستغرَب أن الجهات الفاعلة السياسية، إلى جانب البلديات والمنظّمات غير الحكومية، لعبت دوراً رائداً في الحملة. بالنسبة إلى السياسيين أو الأحزاب، فإن دعم الزراعة واللامركزية في الإقتصاد والحياة اليومية يُمثّل وسيلة للمحافظة على الشرعية في الأوقات الصعبة، مع توفير وسيلة للحفاظ على تأثيرهم في عملائهم ومؤيديهم الطائفيين أو المحليين.

أكثر المؤيدين لتوسيع الزراعة في البلاد هو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي حثّ أتباعه في كانون الأول (ديسمبر) الفائت على العودة إلى الأرض. كانت هناك تقارير تُفيد بأن بعض الأطراف قد قام بتخزين المواد الغذائية لمؤيديه في حالة تفاقم الوضع. ويبدو أن “حزب الله” هو الأكثر استعداداً للقيام بذلك. في أماكن معينة، قامت المجالس المحلية المرتبطة بالحزب بمسح احتياجات السكان وتحديد الأراضي غير المُستخدَمة للزراعة. كما نصحت بزراعة محاصيل مُعيَّنة على أخرى.

في حين أن التوسّع في الزراعة لم يكن كبيراً، إلّا أنه لم يكن مُهمَلاً أيضاً. والهدف ليس حل مشكلة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ولكن التخفيف من تأثيرها. وقد وضعت بلديات الجنوب والشمال وجبل لبنان ووادي البقاع خططاً لزراعة الأراضي غير المُستخدَمة، كما قامت بتوزيع البذور وتنظيم تعاونيات زراعية.

وقد توقّفت هذه الجهود بعد توقف الحركة الإحتجاجية اللبنانية وتأليف حكومة جديدة في كانون الثاني (يناير) الفائت. ويرجع ذلك بشكل أساس إلى نقص الخبرة وقلّة الأموال لشراء البذور والأسمدة المستوردة. لم يتم التفكير كثيراً في المحاصيل اللازمة أو كيفية الحفاظ على الزراعة خارج مواسم مُحدَّدة. وعموماً، لم تكن الجهود كافية لزيادة الإنتاج الزراعي وتلبية الطلب المحلي.

ثم ضرب فيروس كورونا (Covid-19). لقد شكّلت أزمة الفيروس التاجي والضغوط الإقتصادية المُتزايدة التي فرضتها على الإقتصاد، المُتدهور أصلاً، حافزاً ودافعاً لمغادرة المناطق الحَضَرية. لقد كان الإغلاق الاقتصادي العالمي يعني أن لبنان سيجد صعوبة أكبر بكثير في الحصول على مساعدة من صندوق النقد الدولي، بالنظر إلى أن العديد من البلدان الأخرى تعاني أيضاً من الجائحة. وهذا يعني أنه ما لم تتمكن البلاد من مساعدة نفسها وإيجاد سُبُلٍ لإنعاش اقتصادها، فقد يكون هناك زخمٌ جديد لمغادرة المدن وضواحيها والعودة إلى البلدات والقرى، مما يضيف حيوية وإنتعاشاً للحياة المحلية خارج المدن.

كما أطلقت أزمة “كوفيد-19” ديناميكيات تُمكّن البلديات، والتي ستكون المُحرّك لنشاط اقتصادي أكثر لامركزية، مثل الزراعة. إتّخذت المجالس المحلية زمام المبادرة في جميع أنحاء لبنان في مكافحة انتشار وباء كورونا، وفرضت حظر التجوّل والحجر الصحّي والذهاب إلى حد سد الطرق للسيطرة على تدفق الناس داخل وخارج حدود البلدية. شهدت البلدات والقرى الصغيرة تدفقاً أكبر من الناس من المناطق الحَضَرية، الذين يُفضّلون البقاء في المناطق الريفية حيث يكونون أكثر حرية للتنقل. لكن في بعض المناطق، فقد دفع ذلك المجالس المحلية إلى حثّ السكان على عدم استقبال أو تأجير ممتلكاتهم للقادمين الجدد من السوريين أو اللبنانيين، وذلك لمنع انتشار الفيروس.

تتمتع هذه السلطة البلدية المُعزَّزة بمزايا مُحتمَلة للتنمية الزراعية من حيث أنها قد تُسهّل تبنّي المبادرات المحلية. ولكن ما قد تفعله أيضاً هو زيادة المنافسة السياسية على مستوى البلديات. على سبيل المثال، كان “حزب الله” في طليعة الذين بذلوا الجهود لنشر نفوذه محلياً، حيث لم يكن مُهيمناً كما في أي مكان آخر.

في خطاب ألقاه في 14 آذار (مارس)، وضع الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، استراتيجية شاملة للبنان وهو يواجه تحدّي “كوفيد-19″. لقد لعبت مؤسسات الحزب، والأهم منظمة الصحة الإسلامية، دوراً رائداً في تنسيق الإجراءات المحلية ل”حزب الله” لاحتواء الفيروس القاتل. على سبيل المثال، ورد أن الحزب قد منع حركة السوريين عبر مناطق تخضع لسلطة المجالس البلدية التي يسيطر عليها، خشية أن ينشروا المرض.

هذا التأثير الطويل الأمد لأزمة “كوفيد 19” قد يكون له سيفٌ ذو حدّين بالنسبة إلى الدولة اللبنانية. في حين أن عودة جزء من السكان إلى المناطق الريفية قد تكون لها مزايا حيث ستسمح  بنموٍ إقتصادي مُتوازن وزيادة الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية، مثل الزراعة التي تُركت مُهمّشة، فقد تكون هناك تداعيات سلبية أيضاً. يُمكن أن تجد الحكومة صعوبة متزايدة في الحفاظ على سلطتها على الصعيد الوطني مع انخفاض مواردها الإقتصادية ومع زيادة نفوذ الأحزاب السياسية على المستوى المحلي. إن إعادة إحياء الهويات المحلية، بتيسير من الأحزاب السياسية الطائفية، يُمكن أن يُقوّي هويات لبنان المُشقّقة والمُنقَسِمة أصلاً.

  • مُهنّد الحاج علي هو مدير الإتصالات وزميل في مركز كارنيغي للشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى