رسالة إلى الله

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

إلى جوارِ بيتٍ لا سقف له إلّا السماء، ولا حدود إلّا نبع على مسيرة نصف نهار من جهة المشرق، وجبل ضخم من الغرب، وقف لنشو يتأمّل حقول الذرة والقمح وقد امتلأ بالزهو والغرور. كان الصمت يستبيح التلة وينشر ريشه الأزغب في المكان. أخذ لنشو يَسرَح ببصره في ملكوته الصغير، وقد أخذته سنة من التأمل. لم يكن لنشو يحلم بأكثر من هذا: بيتٌ ريفي واسعٌ يتكوّن من ثلاث غرف يتوزّع الهواء والضوء بينها بالتساوي، وزوجةٌ رؤومٌ وثلاثة أبناء في عمر الزهور يَتوَزّعون بين الحقول كما تتوزّع العناقيد فوق ساق العنب. “لا يحتاج هذا المكان إلّا إلى زخّة من المطر تغسل رأس التل وتزيح الغبار والأتربة عن الأشجار الكابية”. وكأن السماء كانت لرغبته بالمرصاد، فسرعان ما تشقّقت بماء مُنهمر. تهلّل وجه لنشو، وجاءه صوت زوجته الدافئ من شرفة بالغرفة المجاورة: “العشاء جاهز هلمّوا”.

تناول الرجل العشاء وحمد رب السماء، وهجع ساعة وساعتين، ولم يتوقّف المطر. كانت الغيوم الداكنة تصبّ حمولتها فوق التل في تحدٍّ ظاهر. وبدأ الرجل يقلب بصره في السماء ليَلمَح غيمةً بيضاء في نهاية النَفَق، لكن السماء كانت مُلبّدة بالخوف. ولم يتوقّف المطر حتى ثارت ريحٌ تأخذ كل ما تجده في طريقها من ورق وثمار. وبعد ليلة كالحة، قلب الرجل بصره في أرضه، فرآها كأنها لم تغن بالأمس، وأخذ يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها.

كان لنشو يعلم يقيناً أن ليلة واحدة من الطقس الغاضب ستُكلّفه شهوراً من المسغبة، ولم يكن لديه صاحب بالجنب ولا صديق حميم ليطلب منه قرضاً يقيه وأهله المسغبة. لكن لنشو كان يملك ثقة لا حدود لها بالله. رفع الرجل بصره إلى السماء، وقرّر في نفسه أمراً. في الليل، جلس لنشو إلى طاولة الطعام، وأمسك بدفتره الصغير، وقرر أن يكتب رسالة.

“إلى الرب… (إستهل لانشو رسالته)، تعلم بالطبع معنى أن تُدمّر الريح والأمطار حقلي، وتعلم أنني لا أعلم أحداً من العالمين يُمكنه إخراجي من هذا الضيق ولو بقرض إلى أجل. أنا في حاجة إلى مئة بيزو يا إلهي حتى موعد الحصاد المقبل، وأعلم أنك تملك خزائن السماوات والأرض، وأنك لن تبخل على عبد ليس له في الكون سواك. عبدك المحب: لنشو”.

في الصباح، وضع الرجل رسالته في مظروف وكتب العنوان: “إلى الله”، وتوجّه إلى مكتب بريد القرية المجاورة، واشترى طابعاً ومرّره على لسانه قبل أن يلصقه فوق المظروف، ثم وضعه في الصندوق وانصرف. ولما أراد موزع البريد أن يُصنّف رسائله، وجد بينها هذه الرسالة، فتعجّب. لم يعرف هذا الرجل الطريق إلى الله أبداً، أين يكون هذا الإله يا ترى ليحمل له رسالة لنشو، وضحك عالياً وهو يضع الرسالة أمام مرؤوسه. لكنه اضطر إلى قطع ضحكته حين وجد صاحبه يقلب الرسالة بين يديه في جدية واضحة. “هذا الرجل يمتلك يقيناً جازماً بالله تمنّيتُ لو امتلكتُ بعضه. لا بدّ وأن نساعد هذا الرجل”. وترك الرجل مكتبه، ليجمع من أصدقائه ومعارفه ما تجود به أنفسهم، ولم يعد حتى جمع للرجل مبلغاً معقولاً. صحيح أنه تجاوز نصف ما أراد لنشو بقليل، لكنه كان خيراً من لا شيء.

وبعد أن فرك عينيه، عاد لنشو إلى مكتب البريد ليسأل إن كان أحدٌ قد أرسل إليه رسالة، وسرعان ما برقت عيناه من الفرح حين وجَدَ رسالة مكتوبٌ عليها “من الله إلى لنشو”. أخذ الرجل الرسالة بين يديه، ولم يصبر حتى يعود إلى المنزل ليفضّها. فرح لنشو حين رأى الأوراق النقدية مطوية داخل الرسالة، لكنه سرعان ما قطّب جبينه حين وجد أن المبلغ لا يتجاوز سبعين بيزو.

في صبيحة اليوم التالي، عاد لنشو إلى مكتب البريد، وفي يده رسالة أخرى إلى الله. إشترى الرجل طابعاً ولصقه وهو مُقطّب الجبين ثم وضعه في الصندوق وانصرف. وكالعادة، فتح موزع البريد الرسالة، وعقد بين حاجبيه حين قرأها، لكنه فوجئ بموظف المكتب يقهقه وهو يقرأ رسالة لنشو: “إلهي، لا ترسل لي رسائل عبر هذا المكتب ثانية، فالعاملون به غير أمناء .. عبدك المخلص، لنشو”.

كان لنشو يمتلك يقيناً جازماً بأن الله يملك كل شيء، وأنه قادر على كل شيء، وهو اليقين الذي لم يمتلكه موزع البريد ولا مرؤوسه ولا الكثيرون منا. صحيحٌ أنه إيمان فج بلا وعي ولا دراية، لكنه كان خيراً من علمانية مُتغطرسة لا تملك نفعاً للناس ولا ضرراً. وقد أثبتت التجارب عجزها المخجل وإفلاسها المُدقع أمام أول نكبة تُحيق بالعالم. المشكلة أننا صرنا كالغربان الذين أرادوا أن يُقلّدوا الطاووس في مشيته، فلم تنبت لهم أرياش يزدهون بها، ولم يستطيعوا أن يمارسوا حجلتهم المعتادة كل صباح. صرنا لا نملك عِلماً عاجزاً كعلمهم، ولا قلباً واثقاً بالإله كقلب لنشو. فسقطنا بين كرسيين كما يقول المثل. نجحت العلمانية البائسة في تفريغ شحنات الإيمان من قلوبنا، ووعدتنا بالمن والسلوى وأنهار من ماء وخمر ولبن، وهي تصكنا في قوالب جامدة وتوزّعنا على غرف الشات الضيقة ومواقع الجنس والإلحاد والمجون. ووثقنا بها حد التوكل، واعتقدنا أنها عاصمتنا من الفقر والجوع والمرض، ثم جاء كورونا ليكشف لنا سوأة الغرب، وبؤس المتغربين. في أول اختبار فعلي لقانون الغرفة الواحدة، يعجز رب الغرفة عن توفير الدواء والطعام والأنفاس لسكانها المغرر بهم. وهكذا، تسقط الرأسمالية الوقحة في البئر عينها التي سقطت فيها الشيوعية الحمراء.

لكننا لا نجد لنشو واحداً من بيننا يستطيع أن يكتب رسالة للرب يطالبه فيها بإيقاف هذا الوباء عن سكان هذا الكوكب المكلوم، فيستجيب له. نقف اليوم أمام جائحة كجائحة لنشو، لكننا لا نملك قلباً كقلبه، ولا ثقة كثقته، ولا يقيناً يُمكّننا من عبور هذه اللحظة المؤلمة. تُرى، هل ذهب أحد سكان هذا العالم الغارق في الكفر والضلال والإنحلال سراً إلى مكتب البريد برسالة إلى الله ليكفّ ويل هذا الفيروس عنّا؟ وهل يستجيب الله برسالة قريبة؟ أم سنظل نُعوّل على الضعفاء منّا والعاجزين عن حماية أنوفهم الحمراء من غزو كورونا اللعين، ولو إلى حين؟

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني:          Shaer129@me.com  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى