لبنان لن يبقى كما كان بعد كورونا

بقلم كابي طبراني

لم يلقَ لبنان سوى القليل من الإهتمام عالمياً خلال أزمة كورونا (Covid-19). حتى الأربعاء الفائت، كان لدى البلاد رسمياً أكثر من 333 حالة إصابة بفيروس كوفيد-19، مع ست وفيات مؤكّدة. ويُقدّر الناس في بيروت العدد الحقيقي للإصابات بما يتراوح بين أربعة إلى خمسة أضعاف هذا الرقم، وقرار الحكومة بنشر الجيش لمنع الناس من انتهاك قواعد الحجر الصحي يُعزّز هذا الرأي.

حتى الآن، يبدو أن المرض لا يزال تحت السيطرة. ولكن الخوف هو أنه إذا خرجت الأمور عن السيطرة، فإن نظام الصحة العامة سينهار ولن يستطيع المواجهة. وما يجعل لبنان أكثر عرضة للخطر من العديد من الأماكن الأخرى في العالم هو أن البلاد تمرّ بأزمة إقتصادية كبيرة. الدولة مُفلسة وقدرتها على تحمّل الإغلاق الطويل، أو استيراد المواد لمعالجة الطوارئ الصحّية، محدودة.

ستكون للإغلاق — الذي بدأ في منتصف آذار (مارس) ويتضمّن بقاء الناس في منازلهم بينما يتمّ تعليق معظم الأعمال التجارية– عواقب وخيمة أيضاً على بلد لا يُمكنه أن يبقى خاملاً. في الأشهر الخمسة الماضية، كان الإقتصاد اللبناني في حالة من السقوط الحر، مع تقييد البنوك لعمليات السحب أو التحويلات إلى الخارج. وقد أجبر هذا الوضع العديد من الشركات على الإغلاق، الأمر الذي أنتج عشرات الآلاف من العاطلين من العمل.

الواقع أن الإنحدار الهبوطي بدأ في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عندما وقعت مظاهرات ضد فساد الطبقة السياسية وتزايد الإجراءات الإقتصادية الرسمية الصارمة وغير العادلة. مع استمرار الإحتجاجات، أدخلت المصارف ضوابط فعلية على رأس المال بعد إدراكها أن المزاج الغاضب قد قوّض النظام الذي أنشأته الدولة لتمويل الدين العام المُتَضَخِّم، والذي يشير الكثيرون إليه إلى أنه مخطط إحتيالي “بونزي” وصل إلى نهايته. فقد عرضت البنوك أسعاراً للفائدة على الودائع كانت أعلى بكثير من المتوسط ​​العالمي، ودفعتها من طريق جذب ودائع جديدة إلى النظام. مع زوال الثقة، كانت البنوك تخشى أن يُسارع أصحاب الحسابات إلى سحب الأموال، مما يؤدي إلى انهيار النظام المصرفي.

كانت المساعدات الخارجية للبنان مشروطة بإدخال إصلاحات. ومع ذلك، قاومت الطبقة السياسية في البلاد ذلك، لأنها ستُقلّل حصتها من الريوع التي تستخرجها من الدولة. وبالفعل، كان “حزب الله” أحد الأطراف الذي عارض في البداية خطة الإنقاذ من صندوق النقد الدولي لأنه يخشى من أن يُخفّض ذلك عائداته، ويُضعف أيضاً الطبقة السياسية التي دعمها لترسيخ مكانته في البلاد.

ولكن في الأسابيع الأخيرة، تراجع “حزب الله” عن مقاومته لتمويل صندوق النقد الدولي، مُدركاً أن لبنان ليس لديه مصدر آخر للعملة الصعبة المُتاحة لمساعدته على الخروج من مأزقه. بالنسبة إلى بلد وصلت احتياطاته من العملات الأجنبية إلى مستويات مُنخَفضة بشكل مثير للقلق، والذي يستورد معظم مواده الغذائية وأدويته بالإضافة إلى كل وقوده من الخارج، فإن رفض خطة الإنقاذ من صندوق النقد الدولي سيكون أمراً إنتحارياً.

إن جائحة كورونا (Covid-19) تجعل اللجوء إلى صندوق النقد الدولي أكثر احتمالاً، وهو أمرٌ يحدّ من مدى قدرة السياسيين على تهميش الإصلاح الاقتصادي. بسبب تجميد النشاط الإقتصادي منذ تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، وخصوصاً منذ تفشّي الفيروس التاجي، تراجعت عائدات الدولة بشكل كبير. وهذا سيضمن عجزاً في الموازنة أكبر مما توقعته الحكومة، مما يتطلب تخفيضات كبيرة في الإنفاق كان الساسة يُفضّلون تجنّبها، أو تأخيرها.

لا شك أن هذه التخفيضات ستفرض مقايضات مؤلمة على الدولة. والأهم من ذلك أنها ستضع السياسيين في معضلة. من ناحية، فإن تخفيضات الإنفاق ستعني أن المزيد من الناس سيُعانون، مما يجعل مقاومة صندوق النقد الدولي وقائمة التقشف الخاصة به أسهل. ومن ناحية أخرى، ستجعل اللجوء إلى المنظمة الدولية لمساعدة لبنان على إدارة ديونه أكثر إلحاحاً، وتُقلّل من قدرة السياسيين على منعه.

الحقيقة هي أن لدى الكثير من اللبنانيين رأيين حول الإستعانة بصندوق النقد الدولي. بينما لا يريدون وضع عبء الإصلاح على كاهلهم، سيرحب الكثيرون بالمنظمة الدولية التي توفر السيولة للمساعدة في إنعاش الاقتصاد وتقليل البطالة. كما أنهم سيُرحّبون برؤية الطبقة السياسية مُحاصَرة من قِبَل فاعلٍ ومراقبٍ خارجي لإدخال الإصلاحات الضرورية، كما هو الحال، على سبيل المثال، في قطاع الكهرباء الفاسد للغاية والمُكلِف وغير الفعّال.

بالإضافة إلى ذلك، فإن النفقات المتزايدة الناتجة من علاج ومواجهة تفشّي وباء كورونا – والتي قد تشمل استيراد الأدوية والمعدات والضروريات الأخرى من السوق الدولية – يُمكن أن تؤدي إلى انخفاض الإحتياطات الأجنبية بشكل أسرع مما كان مُتَوَقّعاً. وهذا من شأنه أن يزيد الضغط على الدولة للذهاب إلى صندوق النقد الدولي.

ومع ذلك، فإن البيئة الإقتصادية الدولية في الوضع الراهن شيءٌ يجب على اللبنانيين أن يكونوا حذرين منه. ستُعاني غالبية البلدان في العالم من الهزّات الإرتدادية لوباء كورونا. وهذا يعني أن الإهتمام الدولي برفاه لبنان – الذي لم يكن عالياً في المقام الأول – قد يختفي. وبعبارة أخرى، سيتعيّن على الدولة إظهار الجدّية إذا كانت تُريد التنافس والحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي في مواجهة التزايد السريع للبلدان التي تُكافح وتُعاني من الفيروس التاجي. ولكي أكون صريحاً، فإن لبنان اليوم ليس أولوية إلّا للبنانيين.

قد يكون السياسيون في لبنان أدركوا الآن أن النظام الذي نهبوه بشكل متهوّر طوال عقود يقع ضحية لكوفيد 19. كانت الطبيعة غير المُستدامة لهذا النظام واضحة منذ شهور، لكن الفيروس ربما جعل جهود الطبقة السياسية لإبقائه على قيد الحياة شبه مستحيلة. عندما يكون النظام فاسداً حتى العظم ووصولاً إلى القلب، فإن إعادة الولادة الكاملة غالباً ما تكون العلاج الوحيد لحل الأشياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى