من وباءٍ مُميتٍ تولَدُ الروائعُ الإِبداعية

بقلم هنري زغيب*

وسْط انفجار الكورونا وباءً عالميًّا، صدر الأُسبوع الماضي (الإِثنين 16 آذار/مارس) مقالٌ في جريدة “لو تان” (Le Temps)  السويسرية للمحرِّرة الأَدبية “ليزْبِت آرمان” (Lizbeth Arman) ذكرَت فيه أَنَّ انتشار الكورونا جعل المئات يقْبلون على رواية (“َألبير كامو” Albert Camus)  “الطاعون” (1947) عن هذا الوباء الذي ضرب مدينة وهران الجزائرية سنة 1944. وكانت هذه الرواية عنصرًا رئيسًا ساهمَ في نيل كاتبها “نوبل” الأَدب (1957).

هذا المقال في الجريدة السويسرية أَخذني إِلى دَور الأَدب والفن تسجيلًا وقائعَ كبرى في ذاكرة التاريخ، وتخليدَها في أَثرٍ أَبقى إِبداعيًّا من ذكْره صحافيًا راهنًا أَو تأْريخيًّا لاحقًا. من تلك الوقائع: أَوبئة كالجدري والطاعون والكوليرا والسلّ والإِنفلونزا الإِسـﭙـانية وحُمَّى الإِبُولى، فتكَت بالشعوب في بلدانِ انتشارها أَو عمَّت الكوكب كلَّه كما الكورونا اليوم.

من الآثار الخالدة فنيًّا: لوحة “طاعون روما” بريشة دُلاكْرْوَى (1844)، لوحة “طاعون ميلانو” للفرنسي “نيكولا ﭘـوسّان” (Poussin)  (1630) ولوحة “طاعون أَثينا” للفْلامَندي مايكل سوِيرتْس (1652).

ومن الآثار الخالدة أَدبيًّا، ما صدر عن وباء الكوليرا: فصل كامل في رواية ﭬـيكتور هوغو “البؤَساء” (1862) عن انتشار وباء الكوليرا سنة 1832 في ﭘـاريس، كرَّس له “أُوجين سو” (Sue)  روايتَه “اليهودي التائه” (1844)، وذكَره الكاتب الفرنسي فرانسو رينيه الفيكونت شاتوبريان في مذكِّرات “أَبعد من القبر” (1849)، وخصَّص له غوستاف فلوبير قصتَه “القلب البسيط” (1877)، وتوماس مان روايتَه “الموت في البندقية” (1913)، وجوزف دِلْتيل (Delteil) روايتَه “كوليرا” (1923)، وجورج دوهاميل روايتَه “الأَمير جَفَّار” (1926)، وغبريال غارثيا مركيز روايتَه “الحب في زمن الكوليرا” (1985)، وسواها الكثير.

ولم يغِب الأَدب اللبناني عن تسجيل فواجع الوباء في روائعَ أَدبية جرَت أَحداثُ بعضِها إِبَّان الحرب العالمية الأُولى، في طليعتها رواية توفيق يوسف عواد “الرغيف” (1939) وفيها سرد موجِع عن انتشار وباء الجدري في لبنان، وقصة سعيد تقي الدين “شيخ القافلة” (في مجموعته القصصية “غابة الكافور” – 1946) وفيها إِصابة أَبي سلمان بالتيفوس في بعقلين، وكان وباءً تفشَّى في لبنان إِبَّان الحرب لانتشار البراغيث السامَّة في أَجواء البلاد.

هكذا: في حضرة الأَدب والفن ومبدعيهما، بعدما تزول الكوارث باتساع انتشارها وآلاف ضحاياها، تبقى محفورةً في الزمان بين ذاكرةِ رواية وأَلوانِ لوحة، فتَدخل مرةً عمقَ الوجدان الإِنساني، وتَبلغ مرةً حدود الأَسْطَرَة والخيال الروائي فلا يعود نقلُها الواقعَ مجرَّدَ سردٍ مسطَّحٍ أَو انطباعيٍّ ليس يليق بالفن ولا بالأَدب.

وهكذا: من وباء مُميتٍ تُولدُ الروائعُ الإِبداعية، فتخلِّدُ في نُصوصٍ أَدبية وأَعمالٍ تشكيلية يُبدعها خلَّاقون، حين يَمضون تبقى للإِنسانية آثارُهم في ذاكرة الأَجيال كلما انتشر في الأَرض وباءٌ يُهدِّد البشرية بضحاياه. وحين يغيب الوباء تُشرق شموس لا تراها الضحايا لكنها تبقى للتاريخ صباحاتٍ خالدةً تخُطُّها يراعةُ كاتبٍ مبدع أَو ريشةُ رسامٍ عبقريّ.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com
  • يَصدُر هذا الـمقال في “أَسواق العرَب” تَوَازيًا مع صُدُورِه في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى