كورونا حركةٌ “تصحيحيّةٌ” عالميّة

بقلم سجعان قزي*

إثْرَ اجتياحِ هتلر فيينا (1938) قال سيغموند فرويد: “إلى الآن قادتْنا كلُّ الطرقاتِ إلى النور، بَدءًا من اليوم ستَقودنا نحو الظلمة”. في زمن “كورونا”، والخوفُ يَعترينا والهواجس، يبقى الأملُ والرجاءُ والصلاةُ قِوى الاحتياطِ فينا. تُرافِق عُزلتَنا وتَضبُطُ توازنَ أفكارِنا. تُكيّفُ طاقتَنا على التأقلم مع تجاربِ الوجودِ والإنْزواء. ليس الربُّ من أتى بالوباءِ، لكنَّ الربَّ قادرٌ على طردِه، وإلّا باطلًا يكون إيمانُنا. ورُبّما خَشيةَ أن تَخدُشَ إيمانَنا، تركت الحكومةُ في لبنان لنا حريّةَ إعلانِ حالةِ الطوارئ الإختياريّة والفرديّة، واكتفَت هي بـ”التعبئة”.

نحن نُؤمن بأنَّ النورَ هو دائـمًـا أمامَنا، والظلمةَ دائـمًـا وراءَنا. لا يدومُ نورٌ في العالمِ ما لم يَستقِر في داخلِنا. ولا تستمرُّ ظلمةٌ في العالم ما لم تَمكُث في داخلِنا. المسألةُ تَـموضُعٌ فكريٌّ ونفسانيّ. من هذا التموضعِ تَبدأ الإنتصاراتُ على كلِّ تحدٍّ. بعضُ مؤرِّخي الحربِ العالميّةِ الثانيةِ يؤمن بأنَّ هزيمةَ أوروبا أمامَ هتلر سنةَ 1940 هي بسببِ عدمِ الإستعدادِ الفكريِّ تجاه المشروعِ النازيّ، وبأنَّ انتصارَها اللاحِقَ عليه سنةَ 1945 هو بفضلِ استعادتِها (وأميركا) اليقظةَ الفكريّة. المؤسفُ أنَّ يقظةَ الشعوبِ غالبًا ما تأتي مُتأخّرةً لأنّها تتعاطى مع اليوميّات وتُهمِل التاريخ. والتاريخُ مليءٌ بـ”العناصرِ المجهولة” كما ذكر “شارل بيغي” في كتابِه “حوارُ التاريخِ مع الروحِ الوثنية”.

رغمَ الخطرِ الـمُحدِقِ، ما نَـمُرُّ فيه اليومَ مرحلةٌ وتَمضي. “الأبرارُ يَرِثون الأرضَ ويَسكُنونَها إلى الأبد”. لسنا على مشارفِ النهاية. وبإيماني، النهايةُ مُساويةٌ القيامةَ. بَعد وقتٍ تَخرجُ العواطفُ من سِجنِها إلى المروجِ وتَدعونا نَجلِسُ في ظلالِها. من المشاعرِ الكبيرةِ تُولد الآمالُ الكبرى. لا نَدَعنَّ الخوفَ يسيطرُ علينا فهو مستشارٌ فاشل. نحن أمّةٌ عظيمة. سنصمُد أمام الوباءِ ونُقاومُه ونهزِمُه كما هَزمنا الّذين اجتاحونا واحتلّوا أرضَنا ودولتَنا. مَن يَدري، لربّما كان وباءُ “كورونا” ثورةً من نوعٍ آخر؟ أتى ليُغيّرَ في الشخصيّةِ اللبنانيّةِ ونفسيّتِها وسلوكيّتِها ما لم تَستطِع أن تُغيّرَه ثورةُ 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) والأزمة الماليّةُ.

بعد هذه التجربةِ لن تَتغيّرَ الحياةُ بل نوعيّتُها. يُفترَض أن نلتزمَ في حياتِنا الجديدةِ فضائلَ الإنسانيّةِ والوطنيّةِ والتضامن، المحبّةِ والتواضعِ والحياء. أن نَتخلّى عن شوائبِ التصَنّعِ والتكَلّفِ والأُبّهةِ، عن البذخِ والترفِ والأنانيّة. أن نرى بقلوبِنا ما كنا نراه بعيونِنا. سيُعلّمنا الإنعزالُ معنى الوِحدة، والبعدُ معنى الشوق، والإنفرادُ معنى التلاقي، والإحتباسُ معنى الحريّة. سنخرُج من بيوتِنا وغرفِنا شُعراء. ليس في العُزلةِ ضعفٌ وهروب، بل دفاعٌ ومواجَهة. فيها نُطهِّرُ أنفسَنا من الخطايا والكراهيّةِ والتفاهات. ونَعلو على الإختلافِ ونذوبُ في الذاتِ الشاردةِ إلى نشوةِ الإرتقاء. غدًا، نُهرول نحو بعضنِا البعض علّنا نَنتزعُ الوطنَ من الإنقساماتِ السابقةِ ونتواثقُ مواطنين وطوائفَ ومناطق. عَلّنا…

بِقدَر ما نُوظّف هذه التجربةَ في تقييمِ سلوكِنا، يُطِلُّ علينا فجرٌ جديدٌ، تائبٌ، مُنقّى ومُصفّى. وتَستعيدُ أشياءُ الحياةِ معانيها الأساسيّة. قريبًا سنَرجِع يُصافح ويُقبّل ويُعانق بعضُنا البعضَ الآخر. سيكون اللقاءُ عيدًا. شعانين. ستَلتقي الإبتساماتُ والوجوهُ والأجساد. بريقُ عيونِنا يلاقي ضِحكةً تَفقِشُ على خُدودِنا فتَحمَرُّ من عَبَقِ الفَجأة. لَذّةُ الإسترخاءِ في المقاهي، والجلوسِ في المطاعم، والنزولِ في الفنادق، تَحمِل أُنْسًا بهيًّا. تغريدُ العصافير باقٍ يُوقِظنا صباحًا على مرأى فُلْكٍ تُلقي المِرْساةَ وأَشْرعةٍ تتحدّى الرياح. لسنا وحدَنا في عُزلة. الدنيا أيضًا معزولةٌ. تنتظرنا.

كنا نَظنُّ أنَّ تَعثّـرَ النظامِ العالميّ، مُضافةً إليه مجموعةُ الصراعاتِ الإقليميّة، سيؤدّي إلى حربٍ عالميّةٍ، فإذا بوباءٍ، مجهولٍ باقي الهُويّة، يَشُنُّ على العالمِ، شعوبًا وحكّامًا وأنظمةً، أوّلَ حربٍ كونيّةٍ في القرن الحادي والعشرين: عَولمةً قُلتُم؟ خُذوها حربًا عالميّة. جميعُنا مسؤولون عن التسبّبِ بهذه الحربِ لأنّنا خَرجنا جميعًا عن الفضائلِ والقيمِ واعتَديْنا على الإنسانيّةِ والطبيعة. وها حِصادُ الأوبئةِ يُضاهي حِصادَ الحروب. كان يُفترَض بالدولِ أن تُدركَ مسبقًا أنَّ نوعيّةَ الإختراعاتِ والأبحاثِ التي تَعمل عليها، بخاصةً على صعيدِ البيئةِ والبيولوجيا والكيمياءِ والنوويِّ والذكاءِ الاصطناعيِّ قد تَفرِزُ مشاريعَ أوبئةٍ. لكنَّ هذه الدولَ احْترَست من الأوبئةِ المعروفةِ لا من الأوبئةِ الآتية.

أخطرُ ما سيَتركُه وباءُ ” كورونا” هو الخوفُ من أن يَتعرّضَ العالمُ دوريًّا إلى أوبئةٍ جديدةٍ ويَعجَزُ التقدّمُ العلمي عن استباقِه. كَشفَت “كورونا” ضعفَ الآلياتِ العالميّةِ حيالَ الأمراضِ الوبائية، وبات تكوينُ شبكاتِ أمانٍ صِحيّةٍ يوازي شبكاتِ الأمانِ العسكريّة. الدولُ اليومَ تُعيدَ النظرَ في منظومةِ علاقاتِـها الدوليّةِ وتعودُ إلى نظامِ الإكتفاءِ الذاتيِّ في موادِّها الأوليّةِ والإنتاجيّةِ حِرصًا على اقتصادِها وتجارتِـها. وأميركا، الدولةُ الكبرى وعرّابةُ العولمة، لم تَتصرَّف بمستوى دورِها المُنتظَرِ تجاه الآخرين في مثلِ هذه الظروف. بَدت أنانيّةً وانعزاليّةً. عِوض أن تُواجِهَ الوَباءَ، استَغلّتْه لتواجِهَ المجتمعاتِ الأخرى، لا سيّما الصديقةَ والحليفة، ووظّفَه دونالد ترامب في حملتِه الإنتخابيّة.

لم تكن العَولَمةُ بحاجةٍ إلى وباءِ “كورونا” كي تَترنّحَ، فهي تَتعرّضُ إلى سلسلةِ نكسات: تراجُعُ النموّ، الإحتباسُ الحراريّ، تغيّرُ المناخ، التَلوّثُ السامُّ، إندلاعُ الحروبِ الإقليميّة، تَفشّي الإرهاب، إنتشارُ الفقرِ، إزديادُ الفروقاتِ الإجتماعيّةِ، إرتفاعُ أعدادِ النازحين، إهتزازُ الإتّحاد الأوروبيّ، أزمةُ الديموقراطيّات، تعليقُ الإتفاقِ النوويِّ مع إيران، وصراعُ أميركا مع الصين وأوروبا وآسيا حول التبادل التجاري الحر. واللافتُ أن “كورونا” سَلكَ في انتشاره خطَّ سيرِ العَولمةِ وضربَ نقاطَ قوتِّها الحسّاسةَ: المواصلاتِ، السياحةَ، الصناعةَ، التجارةَ، الأسواقَ الماليّةَ، والطاقةَ النفطيّة. هكذا انتكَسَت أفكارُ “فرنسيس فوكوياما” في كتابِه: “نهايةُ التاريخِ وآخِرُ إنسان”، وصُدِمَت فكرةُ الكاتب الكنديِّ “مارشال ماكلوهان” عن “القرية العالميّة” التي تحدّث عنها سنةَ 1967.

مَن يُراجع التاريخَ يَكتشِفُ أنَّ انتشارَ الأوبئةِ أسقطَ إمبراطوريّاتٍ في العصورِ القديمةِ وأعاقَ العولمةَ في العصرِ الحديث: وباءُ الطاعون الذي عاد به الجيشُ الرومانيُّ من بلادِ ما بين النهرين في القرن الثاني ميلادي حَدَّ من نفوذِ روما وحضّر سقوطَها. والإنفلونزا الإسبانيّةُ قَضت على براعمِ العولمةِ بعد الحربِ العالميّةِ الأولى. لكنَّ العولمةَ ستُواصل طريقَها بحكمِ حركةِ التاريخِ مع تعديلٍ على قيادتِها وتكوينِها ورأسماليّتِها المتوحِّشةِ وسُرعةِ امتدادِها. نحن عشيّةَ عودةِ المناطقيّةِ الدوليّةِ، والإشتراكيّةِ الإجتماعيّة، والنزعةِ القوميّة، والإيمانِ الروحي.

فَضَح هذا الوباءُ نَزَقَ الطموحاتِ اللامحدودة. أكّد عبثيّةَ الصراعاتِ القائمةِ وهزالةَ الإحتياطاتِ العالميّةِ في جميع الدول. الدولُ القادرةُ على ردعِ الأسلحةِ النوويّةِ لا تَملكُ حبّةَ دواءٍ لمواجهةِ وباء. افتُضِح هذا النظامُ الذي ظَنَّ أنه سيطر على الكونِ وصولًا إلى الكواكب. قال لنا “كورونا”: كلُّ ما فَعلتُموه مبنيٌّ على رمل، أَخْرِجوا “كورونا” من أنفسكِم أَخرُج أنا من العالم.

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحَلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته على تويتر: AzziSejean@
  • يُنشَر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى