لبنان يخسر عقوداً أكثر إذا لم تتم تلبية مطالب المُحتَجِّين

بعدما عاث أهل الحكم فساداً في لبنان على مدى عقود عدة، ها هو البلد يرزح راهناً تحت وطأة أزمات عدة أولها سياسي، وثانيها إقتصادي إجتماعي يشمل بدوره أزمة ثلاثية: مصرفية ونقدية، العجز في ميزان المدفوعات، ومالية.

 

الدكتور حسان دياب: التحديات أكبر من مقدرة حكومته؟

بقلم مهى يحيى*

بعد أربعة أشهر من الإحتجاجات الواسعة، أصبحت للبنان حكومة جديدة. تم التصويت عليها بغالبية طفيفة في البرلمان في أواخر  كانون الثاني (يناير) الفائت، ويجب عليها التعامل مع مهمة ضخمة مُتمثّلة في انهيار اقتصادي ذي أبعاد تاريخية، وتهدئة المُحتَجّين في جميع أنحاء البلاد الذين يُشكّكون في شرعية النخبة السياسية الراسخة المُتَمسّكة بالحكم. إن الإقتصاد اللبناني، وربما ثرواته الطويلة الأجل، على المحك.

منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019، طالب المتظاهرون في جميع أنحاء لبنان، الذين خاب أملهم بسوء الإدارة السياسية والإقتصادية للحكومات المتعاقبة، بإجراء إصلاحات شاملة. لقد ألقوا باللوم بشكل مباشر على النُخَب التي تستمد نفوذها من نظام تقاسم السلطة المُختَل في لبنان. هذا النموذج الطائفي، الذي يُوزّع أعلى المقاعد السياسية في البلاد على أساس الهوية الطائفية، أضعف مؤسسات الدولة؛ ومكّن ثقافة المحسوبية والفساد والريع؛ وأعاق وضع سياسات فعّالة وعقلانية. بدلاً من الصالح العام أو مصالح البلد، هناك فقط المصالح الخاصة اللازمة للحفاظ على النظام، حتى لو أفلست البلاد.

وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2016، كلّفت سياسة المحسوبية لبنان حوالي 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن البلاد نادراً ما عاقبت الفساد المستشري بين النخب السياسية والإقتصادية. في هذه الأثناء، إنفجر عدم المساواة، حيث حصلت فئة الواحد في المئة الأغنى من اللبنانيين على 25 في المئة من الدخل القومي للبنان.

كانت النتيجة كارثية: أزمة ثلاثية تشمل أزمة مصرفية وعملة، أزمة ميزان مدفوعات، وأزمة مالية. في مواجهة نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ حوالي 150 في المئة، سيحتاج التكنوقراط في الحكومة الجديدة إلى السيطرة على الإنفاق الحكومي في وقت انخفضت إيرادات الدولة بشكل كبير. كما أن القطاع المصرفي في لبنان يشهد تجربة مُرّة أيضاً حيث يسعى الناس باستماتة إلى سحب ودائعهم المُكتَسبة بصعوبة وشق الأنفس. مع استثمار ما لا يقل عن ثلث أصولها في قروض القطاع الخاص المحفوفة بالمخاطر ونصف آخر في البنك المركزي، أصبحت غالبية البنوك اللبنانية اليوم غير سائلة حيث لا يوجد لديها النقد الكافي للوفاء بالتزاماتها، وقد يكون بعضها مُعَسَّراً. لقد توقفت عن القيام بمعظم الوظائف المصرفية العادية وأصبحت أقرب إلى “أشباه بنوك”. البنك المركزي، الذي كان يتدخل عادة لتوفير السيولة اللازمة، هو نفسه مُقَيَّدٌ بسبب محدودية المعروض من الدولارات الأميركية وسياسته غير العادية المُتمثّلة في دفع الإلتزامات الحكومية. في حالة أراد التعويض من طريق طباعة المزيد من الليرات اللبنانية، فقد يؤدي ذلك إلى المزيد من انخفاض قيمة العملة وربما التضخم المرتفع جداً.

من ناحية أخرى، تغلق المزيد والمزيد من الشركات أبوابها، وتفيد تقديرات متطابقة أن حوالي 220,000 لبناني فقدوا وظائفهم منذ بدء الإحتجاجات. ومن المرجح أن يواجه لبنان ركوداً من رقمين هذا العام، في حين فقدت العملة بالفعل 40 في المئة من قيمتها مع عدم وجود نهاية في الأفق. وفقاً لتقديراتٍ مُتحَفظّة، يحتاج لبنان على الأقل إلى خطة إنقاذ من 20 مليار دولار إلى 25 مليار دولار للتغلب على هذه الأزمة.

إن العواقب الإجتماعية لهذه الأزمة الإقتصادية مُنهِكة. بالإضافة إلى عدم المساواة المُتفشّي، كان ثلث السكان يعيشون بالفعل تحت خط الفقر قبل الأزمة الحالية. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، حذّر البنك الدولي من أن معدل الفقر قد يرتفع إلى ما يقرب من نصف السكان إذا انخفضت العملة بنسبة 40 في المئة – وهو ما حدث منذ ذلك الحين. ويُقدر البنك الدولي أيضاً أنه من بين مليون ونصف المليون لبناني الذين يعيشون في حالة فقر، سيواجه نصفهم تقريباً الفقر المدقع، غير القادر على توفير السعرات الحرارية الأساسية اللازمة يومياً لعائلاتهم.

إن المناطق اللبنانية التي كانت تعاني بالفعل من فقر كبير قبل هذه الأزمة تتعرّض لضربات شديدة بشكل خاص. في طرابلس، التي يُطلَق عليها إسم “عروس الثورة” لأنها كانت مركزاً للإحتجاجات المُناهضة للحكومة، يعيش حوالي 50 في المئة من السكان على أقل من 4 دولارات في اليوم. في النبطية بجنوب لبنان، مركز احتجاجات آخر، حوالي 25 في المئة من الناس يُعتَبَرون فقراء. مع ضعف مؤسسات الدولة وقدرتها المالية الضئيلة، تتعثّر الخدمات العامة. إن المستشفيات، على سبيل المثال، بدأت تُعاني من نقص الدواء.

عندما بدأت المظاهرات في الخريف الفائت، بدا أنها تُبشر بفترة تحوّل عميق. لقد تميّزت طبيعتها اللامركزية وغير الطائفية على الفور عن حركات الإحتجاج السابقة في لبنان. كما التمردات الشعبية ضد زعماء الطوائف وأحزابهم السياسية، فقد اكتسبت شعوراً متزايداً بالتضامن الوطني والإعتراف بأن التركيبات الطائفية القديمة تتلاشى. الإحتجاجات، بدلاً، كانت حول طبقة سياسية فاسدة مقابل بقية البلاد.

إجتماعياً، هذه اللحظة هي أيضاً واحدة للتغيير. كانت النساء في طليعة المظاهرات، حيث سَعَينَ إلى تحسين المعايير الأبوية التي تُميّز ضدهن، بما في ذلك حرمانهن من حق منح جنسيتهن لأطفالهن إذا كان الأب ليس لبنانياً. وتبنى شباب لبنان وأولئك الذين يعيشون في المناطق السياسية والاقتصادية والجغرافية في لبنان هذا الحق، حيث سعوا إلى وضع حد لأنظمة المحسوبية وفرص أكثر إنصافاً لتحقيق إمكاناتهم.

لكن بعد أربعة أشهر من الاحتجاجات والهبوط الاقتصادي، لا تزال الطبقة السياسية اللبنانية تُركز على الحفاظ على امتيازاتها في نظام لم يعد يعمل. كان نهجها حتى الآن هو الاستمرار في “تجارة الخيول” خلف الأبواب المغلقة حتى فيما تغرق البلاد اقتصادياً. لقد أعلنت أنها تلبية للمطالب الشعبية ستعمل على تشكيل حكومة قادرة وماهرة من مرشحين مستقلين. ولكن يُنظر إلى رئيس الوزراء الجديد، حسان دياب، وأعضاء حكومته على أنهم حزبيون سياسيون عيّنتهم الأحزاب التي انتخبتهم في هذا السياق المستقطب. وقد شغل دياب منصب وزير التعليم في حكومة سابقة. ولا تتمتع حكومته الحالية بالدعم السياسي الواسع اللازم لتنفيذ التدابير الاقتصادية المؤلمة التي يحتاجها لبنان بشدة، كما أنه لا يتمتع بثقة الشارع.

إن الاستمرار في هذا الطريق سيكون كارثياً على لبنان واللبنانيين. تحتاج الحكومة الجديدة إلى وضع خطة إنقاذ اقتصادية ذات مصداقية، تسعى إلى الحصول على دعم خارجي لموازنتها وتُحدّد الإصلاحات الفعّالة للحد من الفساد، وتحسين الحكم وضمان التنمية المُنصِفة كشرط مُسبَق لتقديم الدعم المالي اللازم. كما ينبغي أن تبدأ حواراً سياسياً واسع النطاق يعترف بالتحوّلات السياسية الزلزالية التي تجري في البلاد ويتصدى لتحديات الحكم الرئيسة. كما يجب أن تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية مُبكرة بناءً على قانون انتخابي جديد يضمن ساحة لعب أكثر إنصافاً كما طالب المتظاهرون. من دون وضع هذا المسار الإقتصادي والسياسي الموازي، قد يواجه لبنان عقوداً عدة ضائعة مُقبلة.

  • مهى يحيى هي مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث يركز عملها على نطاق واسع على العنف السياسي وسياسة الهوية والتعددية والتنمية والعدالة الاجتماعية بعد الإنتفاضات العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى