النخبة السياسية في العراق تقترب من نقطة اللاعودة، وبعدها النتيجة الوحيدة المُمكِنة هي انهيار النظام

على الرغم من القمع المتمادي الذي تُمارسه السلطة السياسية في العراق ضد المحتجين والمتظاهرين الذين يُطالبون بإصلاحات عدة في النظام سياسياً واقتصادياً، فإن الإحتجاجات لم تتوقف ومن المرجح أن تستمر بعدما كُلِّف محمد توفيق علاوي بتشكيل حكومة جديدة، الأمر الذي يولّد تهديداً مستمراً للنخية السياسية الحاكمة.

 

محمد توفيق علاوي: مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة

بغداد – سَجَاد جياد*

أمضى المتظاهرون المناهضون للحكومة في العراق أكثر من أربعة أشهر في الدعوة إلى إصلاحات سياسية واقتصادية والتنفيس عن غضبهم من فشل الحكومات المُتعاقبة في توفير مستويات معيشية أفضل وفُرَصٍ إقتصادية. وقد ردّت قوات الأمن، التي فوجئت بقوة الإحتجاجات التي يقودها الشباب وقدرتهم على الصمود، بحملة قمع أسفرت عن مقتل أكثر من 600 شخص وجرح عشرات الآلاف في جميع أنحاء البلاد. لكن الحملة القمعية زادت من حدة الأزمة، حيث يواصل العراقيون النزول إلى الشوارع للمطالبة بالعدالة للمتظاهرين الذين قتلوا وبإصلاحات للنظام السياسي.

كانت الحكومة غير فعّالة إلى حدٍّ كبير في مواجهة الإضطرابات. قاد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي حكومة انتقالية منذ أن أعلن استقالته في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، فيما استغرقت الفصائل السياسية الرائدة في البلاد – تحالف “البناء” الموالي لإيران وتحالف “سائرون” الذي يقوده رجل الدين الشيعي المؤثر مقتدى الصدر – أكثر من شهرين للوصول إلى تسمية مرشح حلّ وسط ليحل محله: محمد توفيق علاوي، وزير اتصالات سابق. ولكن فور إعلان الرئيس برهم صالح عن ترشيح علاوي وتكليفه بتشكيل حكومة جديدة في وقت سابق من هذا الشهر، ندّد المتظاهرون بعلاوي كجزء من المؤسسة السياسية عينها التي يحاربونها. مثل عبد المهدي من قبله، تم اختيار علاوي بعد أسابيع من المفاوضات وراء الكواليس بين قادة أكبر الكتل في البرلمان العراقي.

هذا الواقع لا يصمد بشكل جيد مع الشباب العراقيين الذين يشكلون جزءاً كبيراً من حركة الإحتجاج، والذين تم استبعادهم إلى حد كبير من العملية السياسية. ما يقرب من 60 في المئة من سكان العراق تقل أعمارهم عن 25 عاماً – وهم أصغر من أن يتذكروا أهوال نظام صدام حسين. بعد الإطاحة بالأخير في الغزو الأميركي في العام 2003، نشأ هذا الجيل في ظل حكم رديء، وفسادٍ مُستشرٍ، ومؤسسات ديموقراطية ضعيفة موجودة أساساً لخدمة مصالح النخبة. لقد أنهكت شباب هذا الجيل سنوات من سوء الإدارة والعنف المستمر.

إن احتجاجاتهم تُشكّل تحدياً للنُخَب التي لا تتشكّل حول هويات طائفية ولكن حول قضايا سياسية واقتصادية ملموسة. إنهم يُطالبون بإجراء إصلاح شامل للإقتصاد، وتقديم أفضل للخدمات الأساسية، ووضع حدّ للفساد، وإدخال تغييرات على الدستور والنظام الإنتخابي، مما يُسهّل على الناس العاديين المشاركة السياسية. العراقيون في جميع أنحاء البلاد مُتّحدون في رفض “العقائد” التي دمّرت الأمة بشكل متتابع لأكثر من قرن: الإستعمار، الملكية، الجمهورية، الشيوعية، القومية، البعثية، السلطوية والطائفية. فمع بطالة الشباب التي تبلغ 36 في المئة وزيادة عدد السكان بنحو مليون شخص في السنة، فإن التركيبة السكانية في العراق تُشكّل قنبلة موقوتة. لا يوجد شيء قريب من عقد اجتماعي معروض مقبول للعراقيين، مما دفع المتظاهرين إلى الإعتقاد بأن الأمور لن تتحسن بدون ضغوط، وهم على استعداد للمخاطرة بحياتهم لفرض التغيير.

على الرغم من أن المحتجّين رفضوا رئيس الحكومة المُكلّف، إلّا أن علاوي حاول تمييز نفسه عن الزعماء العراقيين الآخرين من خلال البيانات العامة المُؤيّدة لإجراء إنتخابات مُبكرة، والإلتزام بتلبية مطالب المتظاهرين بالإصلاحات. أمامه حتى الثاني من آذار (مارس) المقبل لتشكيل حكومة ذات مصداقية يُمكنها أن تحصل على تصويت بالثقة من الأحزاب التي تُشكّل البرلمان العراقي المُنقَسِم، بينما تحاول أن تظل مستقلة نسبياً. لكن حتى لو كان ناجحاً، فقد لا يتمتّع بسلطة سياسية كافية للوفاء بوعوده واستعادة ثقة السكان المُتشكّكين. الإنتخابات العادية المُنتَظِمة يحل موعدها في نيسان (أبريل) 2022 ولكن من المُرجّح أن يتم الدعوة إليها في وقت قريب، لذلك لن يكون لدى علاوي الوقت الكافي لسنّ أي إصلاحات بعيدة المدى.

من الناحية الواقعية، يُمكنه أن يأمل في إحراز تقدّم بشأن قضيتين فقط. الأولى هي حماية المتظاهرين وتحقيق قدر من العدالة لأولئك الذين ماتوا في اشتباكات مع قوات الأمن وغيرها من الجماعات المسلحة التي تعمل من دون محاسبة أو عقاب. من خلال استعادة الشعور بالأمن في الشوارع وضمان حرية التجمّع والتعبير، يُمكن لعلاوي أن يمنح المتظاهرين مساحة لتقييم موقفهم وتنظيم أنفسهم حتى يتمكّنوا من الدخول في حوار أو رسم خريطة مسار عملي للإصلاحات.

والثاني هو إجراء انتخابات مُبكرة، الأمر الذي يتطلب تعاون البرلمان للإتفاق على موعد وتصويت لحلّ نفسه – من المُحتمَل أن تكون هذه المهمة صعبة. حتى إذا كان يمكن تحديد موعد، فلا يوجد ضمان بأن نسبة المشاركة ستكون أعلى من المعدل المنخفض المقلق البالغ 44.5 في المئة الذي عرفته الانتخابات العامة الأخيرة في العام 2018. لكن التغييرات الأخيرة في قوانين الإنتخابات، على الرغم من انتقادات واسعة النطاق لها من قبل المُتظاهرين، ينبغي أن تجعل العملية أكثر عدلاً وتشجيعاً لمشاركة وجوه جديدة. لضمان أن يكون للمتظاهرين صوتٌ في الإنتخابات، يُمكن للحكومة الجديدة أن تساعد على تسهيل إنشاء حزب جديد يَتَكَوَّن من مؤيدي الإحتجاجات والحراك وضمان إجراء الإنتخابات بنزاهة.

لكن الإصلاحات الأعمق التي يدعو إليها المتظاهرون ستكون خارج نطاق وقدرة علاوي. أفضل ما يمكن أن يأمل فيه هو إدارة التوقّعات إلى أن يتم إجراء انتخابات جديدة. إنه يُناضل فعلياً الآن من أجل تشكيل مجلس وزراء من اختياره، وهناك شائعات بأنه قد لا يتم حتى تأكيده ومنحه الثقة كرئيس للوزراء.

هذا يضع المُحتَجّين في موقف صعب. حتى إذا كانت حكومة علاوي قادرة على حمايتهم في المدى القصير والمساعدة على إعطاء صوت أكبر لهم في الإنتخابات، فإن النظام السياسي في العراق مُقاوِمٌ بشكل أساس لأنواع الإصلاحات الجوهرية التي يدعون إليها. يُمكن للأحزاب والمصالح الأكثر نفوذاً – بما فيها أعضاء إئتلاف “البناء” مثل “عصائب أهل الحق” و”منظمة بدر”، اللتان لهما مقاعد في البرلمان بالإضافة إلى أجنحة مسلحة في قوات “الحشد الشعبي” العسكرية ومنافسيها في كتلة الصدريين “سائرون” – الإعتماد على شبكات واسعة من المحسوبية والقوة المالية. كما تحتفظ بنفوذ كبير في بيروقراطية الدولة وعلى وزراء الحكومة، ويحظى بعضهم بدعم كبير من قوى أجنبية مثل إيران، مما يجعل من غير المرجح أن يتخلى هؤلاء عن السلطة عن طيب خاطر.

على الرغم من ذلك، هزّت أحداث الأشهر القليلة الماضية النخبة السياسية. لقد أظهرت مرونة الإحتجاجات، حتى في مواجهة عمليات القتل والإجراءات القمعية، وفقدان شعبية الحكومة، أن التيار بدأ ينقلب على الوضع الراهن. عاجلاً أم آجلاً، سيتعيَّن على حكام العراق أن يتصالحوا مع حقيقة أنهم ليسوا شعبيين أو مقبولين كما كانوا من قبل. كل عام يمر من دون تحسّن في الحياة اليومية للعراقي العادي يعني فقدان الثقة بشكل متزايد.

تقترب النخبة السياسية في العراق من نقطة اللاعودة، وبعدها تكون النتيجة الوحيدة الممكنة هي انهيار النظام. بالنسبة إلى المتظاهرين، هذا يعني أن هناك مُتّسعاً للحصول على إصلاحات تدريجية إذا كانوا على استعداد لتقديم تنازلات. قد يُمثّل العامان المُقبلان الفرصة الأخيرة والأفضل لهذه التغييرات.

  • سَجَاد جياد هو المدير الإداري لـ “مركز البيان للتخطيط والدراسات”، وهو مؤسسة بحثية مستقلة غير ربحية مقرها في بغداد. يُمكن متابعته على تويتر: @SajadJiyad

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى