دمشق تُواجه انهياراً إقتصادياً فيما الليرة السورية تَغرق

في حين استطاع النظام السوري اجتياز الإمتحان العسكري والإنتصار على خصومه بمساعدة إيران و”حزب الله” ودعم جوي روسي، يواجه الآن معركة أصعب من نوع آخر تتلخّص بانهيار إقتصادي مع انخفاض الليرة السورية بشكل كبير.

الرئيس بشار الأسد: هل يربح المعركة الإقتصادية؟

 

بقلم داني مكي*

في مواجهة التهديد بفرض مزيد من العقوبات، والوضع المُضطرب في لبنان المجاور، والشتاء البارد والقاسي، فإن الشيء الوحيد الذي يرتفع حالياً من جمر سوريا التي مزقتها الحرب هو قيمة الدولار مقابل الليرة السورية المُتعثّرة. من سعرٍ بلغ حوالي 50 ليرة للدولار قبل الحرب في العام 2011، إرتفع سعر الصرف الآن بأكثر من عشرين ضعفاً إلى مستوى قياسي بلغ 1200 ليرة مقابل كل دولار. يُمثل هذا بداية مرحلة جديدة خطيرة في الصراع السوري، حيث تحاول الحكومة، بعد حرب مستمرة منذ ثماني سنوات من أجل البقاء، مواجهة الإنهيار الإقتصادي من الداخل.

منذ العام 2011، كانت الإحتجاجات في المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة في سوريا نادرة الحدوث، ولكن في مواجهة الأزمة المستمرة، نزل سكان بلدة شهبا الجنوبية في محافظة السويداء إلى الشوارع لمدة ثلاثة أيام متتالية في منتصف كانون الثاني (يناير) الفائت للإحتجاج والإعلان عن غضبهم من ارتفاع الأسعار والعقوبات والوضع الإقتصادي المؤلم.

“نُريد أن نعيش”، هتف المتظاهرون – شعارٌ تردّدت أصداؤه في جميع أنحاء سوريا – حيث انضم إليهم أشخاص من خلفيات مُتعدّدة، بمَن فيهم الطلاب، وأصحاب المتاجر، والموظفون الحكوميون. لم يكن انهيار الليرة السورية هو الذي أشعل الإحتجاجات فحسب، ولكن أيضاً شحّ فرص العمل والإرتفاع السريع في تكاليف المعيشة. في حين اقتصرت الاحتجاجات على منطقة واحدة فقط، فمن المؤكد أن بقية البلاد تتعاطف معها. وعلى الرغم من أنها لم تدم طويلاً، إلّا أنها أثارت اهتمام الحكومة والمواطنين السوريين على السواء.

قدمت صفحة شبكة جبلة الإخبارية الشعبية على “فايسبوك” بتهكّم بعض النصائح لشعب جبلة في محافظة اللاذقية: “لأولئك الذين يرغب منكم في المدينة المشاركة في الاحتجاجات، يُرجى التوجّه إلى الساحة الرئيسة، لأنها أقرب إلى المقر الرئيس للمخابرات الجوية” – وهذه علامة، رغم التهكم، بأنه على الرغم من أن الناس لا يريدون العودة إلى الصراع، فإنهم يحتاجون إلى استراحة، لأن شدة الوضع والآثار التراكمية لظروف المعيشة السيئة والعقوبات وارتفاع الأسعار وصلت إلى حد لا يُحتمَل. مباشرة بعد الاحتجاجات القصيرة الأمد، أعلنت “الأمانة السورية للتنمية””، وهي منظمة لا تبغي الربح تُديرها الحكومة، عن خطط لتوفير 368 مليون ليرة سورية (حوالي 300,000 دولار) لمشروع مستمر في السويداء لدعم السكان المحليين.

على الرغم من رد الفعل العام الغاضب المتزايد، لم يتراجع الخط الرسمي للحكومة. في مقابلة مع تلفزيون “الميادين” في كانون الثاني (يناير) الفائت، زعمت المستشارة الرئاسية السورية بثينة شعبان بأن “الإقتصاد السوري الآن هو أفضل 50 مرة مما كان عليه في العام 2011”. وأضافت أن تضخم الليرة السورية كان “كلاماً محضاً بشأن سعر الصرف مع عدم وجود شيء رسمي وكتابي”- الأمر الذي أثار استياء معظم السوريين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، والذين غمروا وسائل التواصل الاجتماعي بالكلام الساخن رداً على ذلك. وقد علّق أحد ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي قائلاً: “يجب عليكِ الإتصال بمتجر الحي حيث أسكن”، مشيراً إلى ارتفاع الأسعار، بينما أشار آخر: “لا بأس إذن، لا يوجد شيء يُمكن ملاحظته أو رؤيته هنا”. إن النبرة الساخرة لمثل هذه التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد الحذر من الحرب والإرهاق الذي يشعر به الكثير من السوريين.

إتخذت الحكومة بعض الخطوات لمعالجة هذه القضية، حيث زادت رواتب موظفي الدولة بمقدار 20,000 ليرة سورية (حوالي 17 دولاراً) شهرياً في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، لكن هذا لم يُعوِّض التضخّم – على الرغم من ارتفاعه، لذا كانت النتيجة الصافية خسارة. وقالت الناشطة الإعلامية الإجتماعية هبة سلامة، التي تعكس مزاج الشارع: “لسوء الحظ، على الأرض، فإن الوضع غير صحي تماماً. لم تتغير الأسعار أبداً على الرغم من قرارات الحكومة. لقد تعب الناس جداً”.

القيادة السورية مُجبَرة على اتخاذ إجراءات صارمة

فرضت الحكومة أيضاً حملة صارمة على بورصات العملات، وأُغلقت عشرات الشركات، مثل شركة البراق، بعد أن بلغ سعر الدولار ذروته عند 1200 ليرة سورية في منتصف شهر كانون الثاني (يناير). وأصدر الرئيس بشار الأسد في وقت لاحق قانونين، المرسومان التشريعيان 3 و4 للعام 2020، اللذان يُحظّران فعلياً المعاملات بأي عملة غير الليرة السورية ويفرضان عقوبة على كل من “أذاع أو نشر أو أعاد نشر وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة أو وهمية … لإحداث التدني أو عدم الإستقرار في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها المُحدّدة بالنشرات الرسمية أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة”. بالإضافة إلى ذلك، تم رفع الحد الأقصى للعقوبة المفروضة على إجراء معاملات بعملة أخرى غير الليرة السورية إلى السجن لمدة سبع سنوات مع الأشغال الشاقة.

منذ صدور المرسومين، تم اعتقال المئات من الأشخاص الذين يتاجرون بالدولار. وتنشط الشرطة السورية على وسائل التواصل الإجتماعي أيضاً، حيث تنشر عشرات الصور لرجال في أصفاد يقفون إلى جانب كتل مُكدّسة من العملة السورية و العملة الأميركية من فئة ال100 دولار. في أحد هذه التعليقات، كُتِب التالي: “إعتقال شخص في عدرا (ريف دمشق) لاستخدامه متجر البقالة الخاص به كمركز لتجارة العملات والتعامل بعملةٍ غير الليرة السورية”. بالإضافة، في أوائل كانون الثاني (يناير) الفائت أصدر مصرف سوريا المركزي بياناً بأنه سوف “يحدّ من توزيع التحويلات الواردة من الخارج وفقاً لعقود مع شركات الصرافة المعتمدة بموجب مبادئه”.

من المُحتَمَل أن تكون الحملة الأخيرة على بورصات العملات مؤقتة، ومع ذلك لن تُعالج المشكلات الإقتصادية الأساسية للبلاد. وفقاً لحايد حايد، الخبير في الشؤون السورية في مركز “تشاتام هاوس”: “تهدف هذه الإجراءات إلى تقليل الطلب على العملات الأجنبية وتخفيف مخاطر تحويل الأفراد لأصولهم المالية المحلية إلى حيازات بالعملات الأجنبية. ومع ذلك، فإن العيوب الهيكلية الأعمق ونقص النشاط الاقتصادي ستفوق بالتأكيد المكاسب القصيرة الأجل لتدابير النظام التفاعلية”.

وفي الوقت عينه، سعى النشطاء الموالون للحكومة إلى حشد الدعم من خلال مبادرة تهدف إلى تعزيز الثقة في العملة السورية، ولو مؤقتاً فقط، من خلال إطلاق عروض ترويجية لبيع سلع مُعَيّنة مقابل ليرة واحدة فقط. وقد تم ذلك في الوقت عينه الذي اتخذت فيه الحكومة تدابير لحظر المعاملات البديلة للعملات على أمل تخفيف المزيد من التضخم. حتى أكشاك الوجبات السريعة بدأت تقدم أسعاراً خاصة “ساعة سعيدة بليرة”، وكانت المبادرة ناجحة بشكل هامشي، حيث تمكنت من تثبيت قيمة الليرة السورية بحوالي 1100 ليرة للدولار. في درعا، على سبيل المثال، أجرى جرّاحون أكثر من 80 عملية طبية مقابل ليرة سورية واحدة كجزء من حملة أطلق عليها “ليرتنا هي فخرنا”. ويأمل خبير الإقتصاد المُؤيّد للحكومة عامر طيفور أن يكون للحملة تأثير إيجابي: “إن الطلب على الليرة، ومنع المضاربة، ومنع البيع والشراء بالعملات الأجنبية، بالإضافة إلى منع الاحتكار، مع تنظيم أسعار العقارات والسيارات هو القرار الصحيح الذي يجب اتخاذه”.

وقال ماكسيم منصور، وهو مراسل في دمشق يتابع الوضع الاقتصادي عن كثب، إنه بينما تظل تقلبات العملة مشكلة أساسية، فإن قضايا أخرى، مثل الخدمات والوظائف والضروريات اليومية، قد تأثرت أيضاً بشكل كبير: “الإرتفاع المجنون في الأسعار يترافق مع نقص في الوقود وزيت التدفئة والغاز المحلي – بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء لفترة طويلة. لقد دعمت الحكومة السورية المواد الغذائية، مثل الشاي والسكر والأرز، لكن قوبل ذلك باللامبالاة بسبب قلة الكمية ونوعية المواد السيئة، وبخاصة الأرز، الذي كان مُصاباً في بعض الأحيان بالحشرات. وقد زادت الوضع سوءاً العقوبات التي، للأسف، وصل تأثيرها إلى المواطنين السوريين”.

عدم الإستقرار في لبنان وقانون قيصر أضافا الضغط

إضافة إلى المشاكل السابقة الداخلية، فإن الأزمة الحالية والإضطرابات في لبنان – اللاعب الرئيس بالنسبة إلى الإقتصاد والمركز المصرفي لسوريا – تزيد الطين بلة حيث تؤثر سلباً وبشكل كبير على دمشق، التي تجد نفسها متورطة في مشاكل جارها الإقتصادية. إن عدم قدرة الجهات الاقتصادية السورية الرئيسة على الوصول إلى النقد مع تشديد البنوك اللبنانية للقيود، خلق مجموعة من المشاكل الجديدة. وكما أوضح سام هيلر، المُحلل في “المجموعة الدولية للأزمات”: “منذ بداية الأزمة الإقتصادية في لبنان، أصبح من الواضح مدى أهمية هذا البلد بالنسبة إلى رفاهية سوريا الإقتصادية. بالنسبة إلى سوريا، التي تخضع لأنظمة عقوبات متعددة ومتداخلة، كان لبنان قناة حيوية للسلع والأموال، وفي مكان ما بالنسبة إلى السوريين لإيداع أموالهم”.

والآن، هذه الأموال عالقة في لبنان، وقد أدى هذا إلى ارتفاع ثابت في قيمة الدولار مقابل الليرة السورية. قبل بدء الإحتجاجات اللبنانية في منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، ظل سعر الصرف ثابتاً عند مستوى يتراوح بين 400 و 500 ليرة سورية مقابل الدولار. لقد ارتفع الآن إلى ما يقرب من 1200 ليرة مقابل الدولار، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف في غضون بضعة أشهر فقط –  مما أدى إلى عرقلة الاقتصاد السوري في هذه العملية. ويتابع هيلر قائلاً: “هذا بالإضافة إلى أهمية لبنان كمصدر للتحويلات من العمال السوريين المغتربين. والآن الضوابط غير الرسمية (Capital Control) التي تمارسها المصارف اللبنانية على رأس المال جمّدت الودائع المصرفية في لبنان كما أدى النقص في الدولارات في البلاد إلى تعطيل الواردات، وشل الإقتصادين اللبناني والسوري على السواء. بالنسبة إلى رجال الأعمال أو السوريين الآخرين الذين وضعوا أموالهم في البنوك اللبنانية لحفظها، فإن هذه الأموال أصبح الوصول إليها الآن غير ممكن وربما ذهبت”.

من المتوقع أن يستمر سعر الليرة السورية في غرقه مع سريان العقوبات التي تديرها الولايات المتحدة بموجب “قانون قيصر للحماية المدنية في سوريا”. سيضيف قانون قيصر عقوبات جديدة على القادة في دمشق والشركات السورية، وكذلك الدول والأفراد الذين يدعمون الحكومة عسكرياً أو مالياً أو تقنياً، بما في ذلك روسيا وإيران. الطريقة الوحيدة التي يُمكن بها رفع هذه العقوبات أو تعليقها هي موافقة سوريا على عدد من الحلول الوسط – وهو أمرٌ غير مرجح في المناخ الحالي. وتشمل هذه الشروط الإفراج عن السجناء السياسيين، ووقف القصف الجوي والهجمات على المدنيين، والمساءلة عن مرتكبي جرائم الحرب.

وفقاً لهديل عويس، وهي صحافية تتخذ من واشنطن مقراً لها وتغطي سوريا، إن العقوبات تُشدّد الخناق على الإقتصاد السوري وتزيد من معاناة السكان: “العقوبات تؤثر في الشعب السوري أولاً وقبل كل شيء. الناس في كل سوريا يعانون اليوم، في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة والمعارضة، ويكافحون من أجل المأوى والمال. وهذا فاقمته العقوبات”.

في نهاية المطاف، إنتهى الجانب العسكري من النزاع السوري إلى حد ما، وهو موجود الآن إلى حد كبير في مناطق مُعَينة من البلاد. في الوقت الذي نجحت الحكومة في التغلب على تحدي البقاء العسكري – وإن كان ذلك من خلال استخدام القوة المطلقة والعنف الوحشي – فعليها الآن تكييف جهاز الدولة، الذي يسير على النمط السوفياتي القديم، لإدارة التحدّي المتزايد المتمثّل في البقاء والصمود الإقتصادي.

  • داني مكي صحافي يُغطي الصراع السوري. لديه شهادة ماجستير في السياسة في الشرق الأوسط من جامعة “سَوَس” (SOAS)، ومتخصص في العلاقات السورية مع روسيا وإيران. وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة بالكاتب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى